لهذا السبب.. لن يجفّ الحقد الإسرائيلي على غزة!

عملية "طوفان الأقصى" لم تعد القضية الفلسطينية إلى الواجهة فحسب، إنما أعادت القطاع المحاصر والمنسي إلى واجهة الاهتمام والأحداث السياسية.

  • القصف الوحشي على غزة.
    القصف الوحشي على غزة.

في الخامس عشر من شهر آب/أغسطس 2005، بدأت "إسرائيل" بالانسحاب من قطاع غزة، وأجبرت المستوطنين المتشددين على الخروج باتجاه موقع الاستيطان الجديد: "غلاف غزة". اعتقدت "إسرائيل" أنَّ انسحابها سوف يكون سبباً في ارتخاء المقاومة وتباطؤ عملها في تطوير قدراتها القتالية أو حتى التخلي عنها. فشلت الفرضية الإسرائيلية في غزة تماماً كما فشلت قبلها في جنوب لبنان، وبقي القطاع "البقعة المشاكسة" التي لا تنفك تؤلم "إسرائيل" وتؤرقها.

لم تكن "إسرائيل" بحاجة إلى عملية بحجم "طوفان الأقصى" لتجدّد التعبير عن رغبتها في الخلاص النهائي من غزة أو لتصب جام غضبها عليها وهي تحاصرها منذ 16 عاماً. هي على أتم الاستعداد لانتهاك حياة أهالي غزة بسبب أو من دونه؛ فما يوصف بـ"السبت الأسود" الإسرائيلي سبق للغزّيين أن عاشوه مراراً، فالوصف نفسه أطلق على المجزرة التي ارتكبتها "إسرائيل" في يوم السابع والعشرين من شهر كانون الأول/أكتوبر 2008، إذ وصل عدد الشهداء في يوم واحد إلى أكثر من 200 شهيد، وكانت الحصيلة الأعلى منذ نكبة العام 1948.

ما قامت به حركة حماس من خلال جناحها العسكري "كتائب القسام" كان أكبر من طوفان أفقي. في الواقع، هو أشبه بزلزال من شأنه أن يهز أساس هذا الكيان و"جيشه" الذي يوصف بأنه لا يقهر.

أما الهزات الارتدادية، فلن تكون أقل من اضطرابات سياسية واجتماعية متواصلة قد تبدأ اليوم ولا تنتهي بسنوات، وكثيراً ما يسعفنا التاريخ في استشراف المستقبل.

شكَّلت حرب أكتوبر العام 1973 صدمة على المستويات كافة في "إسرائيل". ومع ذلك، لم نرَ نتائجها السياسية على الفور؛ فبعد أربع سنوات، أي عام 1977، صعد حزب الليكود اليميني إلى الحكم بقوة، محيّداً حزب العمل/الماباي الذي حكم الكيان منذ نشأته.

واليوم، مع اهتزاز "إسرائيل" حتى النخاع، تتعالى الأصوات الإسرائيلية المنتقدة للحكومة بشكل عام، ولشخص بنيامين نتياهو بشكل خاص، مطالبة إياه بالرحيل، ليس بعد انتهاء الحرب، إنما قبلها. وبحسب الكاتب الإسرائيلي ألون بنكاس، فإن "نتنياهو وحكومته خانا بكل قسوة الثقة المقدسة التي تشكل جوهر ميثاق الإسرائيليين مع حكومتهم: الأمن".

ولكن لنعد إلى سؤالنا عن خصوصية هذا الحقد الإسرائيلي المتنامي على قطاع غزة؟

تقول السردية اليهودية التي أفضت إلى قيام الكيان الإسرائيلي إن الأخير وُجد على "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". ورغم معرفة اليهود بزيف هذه الرواية، فإنَّهم سعوا عبر المجازر المتنقلة والتطهير العرقي –الذي وثقه كتّاب إسرائيليون قبل غيرهم- إلى جعل هذه العبارة الشهيرة حقيقة مطلقة ومسلّمة، إلا أن القطاع بجغرافيته وديموغرافيته ومقاومته بقي عائقاً صلباً أمام تثبيت هذا الزيف الإسرائيلي.

ورغم الحروب المتكررة عليه بهدف "هدم المبنى القديم لبناء آخر جديد"، كما نظّر وأراد مؤسس الصهيونية العالمية ثيودور هرتزل، فإنَّ الأمر لا يزال مستعصياً حتى اليوم. وبذلك، تكون "إسرائيل" قد فشلت على 3 محاور في التعامل مع غزة؛ في المرة الأولى لمدة 38 عاماً عبر الاستيطان المباشر والوجود الدائم على الأرض. وفي المرة الثانية بافتراض أن الانسحاب سوف يدخل المقاومة في حالٍ من الاستسهال والارتخاء. وفي المرة الثالثة عبر الحصار الخانق المترافق مع جولات من الحروب والقصف والاجتياح البري. 

 يمكن القول إن عملية "طوفان الأقصى" لم تعد القضية الفلسطينية إلى الواجهة فحسب، إنما أعادت القطاع المحاصر والمنسي إلى واجهة الاهتمام والأحداث السياسية أيضاً، باعتباره مركزاً حيوياً وأساسياً للقرار الفلسطيني من جهة، وطرفاً لا يمكن تجاهله في استراتيجية أي جهة دولية أو إقليمية تجاه القضية الفلسطينية من جهة أخرى.

لم يكن "طوفان الأقصى" أو زلزاله إخفاقاً إسرائيلياً فقط، إنما كان إخفاقاً لمحور دولي مهيمن ووازن أيضاً. لا عجب في أن ينزعج جزء من الغرب مما يحصل، فقد اعتاد أن يصدّر للعالم ما يراه مناسباً في الوقت الذي يختاره، ولم يعتد على صناعة الأحداث في الجنوب، ومن أهالي الجنوب، الذين يمتلكون الحق في ضبط ساعة الأحداث وفق رؤيتهم ومصلحتهم الوطنية.

 هنا نصل إلى النقطة الأخرى التي تجعل الكيان الإسرائيلي يستمر في حقده على هذه البقعة الجغرافية التي لا يمكن ابتلاعها وشطبها عن الخريطة، كما أراد وأظهر رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في خطابه الأخير في الأمم المتحدة؛ ففي هذه البقعة، يقطن أهل غزة إلى جانب أكثر من مليون لاجئ منذ النكبة. وبذلك، يكون القطاع شاهداً حياً على ماضي "إسرائيل"، كما حاضرها، فإذا كان الكيان يطمح لتوطين فلسطينيي الشتات في منفاهم، في الأردن وسوريا ولبنان وغيره، فما عساه يفعل بهؤلاء؟ 

 عملت "إسرائيل" من خلال بنود اتفاقية أوسلو على تفكيك الضفة وتحويلها إلى جزر معزولة تفصل بينها الحواجز الإسرائيلية. تبدو الصورة في القطاع مختلفة، ولا تزال الجغرافيا المحاصرة بالكامل موحدة بالكامل، وهو ما يزعج الإسرائيلي ويصعّب مهمات التعامل مع القطاع ككتلة واحدة.

لذلك كله، تصبح مهمة إغراق القطاع في البحر، كما كان إسحاق رابين (الذي منحه العالم "المتعاطف" جائزة نوبل للسلام) يحلم، مهمة مستحيلة. هي مهمة مستحيلة، رغم السعي الإسرائيلي الحثيث لإبادة أهل القطاع عبر الغارات وقطع المياه والكهرباء ومنع دخول المساعدات الإغاثية، وذلك على مرأى العالم.

 بصرف النظر عن مآلات الحرب الميدانية، إلا أن المقاومة، وعبر حركة حماس بالتحديد، دخلت التاريخ من بابه العريض. استراتيجية إسرائيل المعروفة بـ"جز العشب"، التي تهدف إلى اقتلاع فصائل المقاومة من القطاع، لم تنجح، ولن تنجح أيضاً محاولة تصوير أهل القطاع على أنهم "حيوانات البشرية"، وفق وصف وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت، رغم أن ما قاله ليس بمستغرب. أليس هذا من صلب عقيدته الدينية في تحديد آلية التعامل مع "الغوييم"؟

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.