مصر كوسيط إقليمي: هل تستطيع لعب دور في المفاوضات بين طهران وواشنطن؟

تمتلك مصر ما لا يمتلكه غيرها، ولديها فرصة كبيرة لتفعيل دورها كوسيط في تخفيف التوترات الإقليمية، خاصة في الملف النووي الإيراني كما الصراع الدائر في غزة،

  • العلاقات بين القاهرة وطهران.. وفرص تطوّرها.
    العلاقات بين القاهرة وطهران.. وفرص تطوّرها.

بين الحين والآخر، تتصاعد الأصوات التي تحذّر من احتمالات حدوث انفجار إقليمي واسع بفعل التوترات المستمرة بين إيران والعدو الإسرائيلي، فالاضطرابات الحاصلة في البحر الأحمر آخذة في التصاعد كردّ فعل على تباطؤ مسار التهدئة في قطاع غزة، كذلك تواصِل "تل أبيب" وحلفاؤها الغربيون الضغط على وكالة الطاقة الذرية لإعلان عدم امتثال طهران بالتزاماتها المتعلّقة بالبرنامج النووي. وإزاء كل ما سبق، تُبدي القاهرة تخوّفاً من اندلاع حرب كبرى قد تُلقي بظلالها على استقرار المنطقة، وبالأخص على الاقتصاد المصري المأزوم بطبيعة الحال.

تلك المخاوف تجلّت بدرجة أو بأخرى في تصريحات إعلاميين ومحللين مقربين من دوائر صناعة القرار، الذين حذروا من "حروبٍ طويلة" قد تُعطّل الملاحة في قناة السويس، أو تؤثر على حركة التجارة والطاقة التي تشكّل شرياناً حيوياً لمصر. لكن، رغم هذا الإدراك المتزايد للمخاطر، لا يبدو أن القاهرة قد اتخذت حتى الساعة خطوات فعّالة للتعامل الاستباقي مع هذا السيناريو الإقليمي المتدهور، باستثناء دورها المحوري والإيجابي في رعاية المفاوضات بين الفصائل الفلسطينية وحكومة الاحتلال في ملف غزة، بالتنسيق مع الدوحة وواشنطن.

أمّا حين يتعلق الأمر بالمواجهة الأوسع، وتحديداً الملف الإيراني الذي يقف في قلب التصعيد، تغيب مصر عن المشهد، أو تكتفي بالمراقبة الحذرة، من هنا، تأتي تلك الدعوات العقلانية لأن تُبادر مصر إلى لعب دور مباشر في تخفيف التوتر، من خلال رعاية مسار حوار إيراني/ خليجي أو إيراني/ غربي، على غرار ما فعلته سلطنة عمان من قبل، ولا تزال تفعله إلى اليوم، إذ استضافت مسقط ثلاثاً من أصل خمس جولات، تفاوض فيها الإيرانيون مع المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف بشكل غير مباشر خلال الشهرين الماضيين.

العلاقات بين القاهرة وطهران.. وفرص تطوّرها

في منتصف أكتوبر/تشرين الأول الماضي، كانت طائرة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقتشي تهبط في مطار القاهرة قادمة من سلطنة عُمان، كأول زيارة لمسؤول إيراني إلى مصر منذ عام 2013، وسبق ذلك زيارة أجراها وزير الخارجية المصري لطهران في مايو/أيار من العام نفسه. تلك الزيارات المتبادلة فُهمت حينها كنوعٍ من الانفتاح الحذر بين البلدين الذي ميّز فترة ما بعد عام 2021، وأنه آخذ في التنامي بالتزامن مع تصاعد التوتر في المنطقة ما بعد عملية "طوفان الأقصى" وما تلاها من عدوان إسرائيلي.

تاريخياً، كانت العلاقة بين طهران والقاهرة مستقرة قبل يوليو/تموز 1952، إذ عُيّن يوسف ذو الفقار باشا كأول سفير لمصر في طهران، كما تزوجت الأميرة فوزية شقيقة الملك فاروق، حاكم مصر قبل الثورة، من شاه إيران محمد رضا بهلوي؛ لكن مع وصول جمال عبد الناصر إلى حكم مصر، وتبنّيه نهجاً معارضاً للاستعمار الغربي، بدأت التوترات مع سياسات الشاه الاستبدادية المتحالفة مع واشنطن والمؤيّدة لحق "إسرائيل" في الوجود. المفارقة أنه عندما ثار الشعب الإيراني في عام 1979، وتغيّرت دفة سياسات طهران، داخلياً وخارجياً، 180 درجة، كانت القاهرة تستعد للسلام مع "إسرائيل" تحت حكم أنور السادات، ما أدى إلى جفوة سياسية بين البلدين، لتبني كل منهما نهجاً مختلفاً في ما يتعلق بالموقف من العدو الإسرائيلي والعلاقة مع القوى الغربية، فانقطعت العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين عام 1980.

خلال فترة الرئيس المصري حسني مبارك، والتي اتسمت عموماً بنوعٍ من التوازن، تحسّنت العلاقات بين البلدين في المجالات الدبلوماسية والاقتصادية، خاصة خلال فترة ولاية الرئيس الإيراني محمد خاتمي، لكن رغم هذا التحسّن النسبي، لم ترتقِ إلى مستوى العلاقات الطبيعية، إلّا خلال فترة بسيطة تلت كانون الثاني/ يناير 2011، لكنها عادت للفتور مجدداً بعد حزيران/ يونيو 2013، في ضوء الأوضاع الأمنية غير المستقرة في مصر، وكامتداد للتوترات اللاحقة بين طهران والرياض.

بعيداً من السرد التاريخي للعلاقات بين البلدين والذي يمتد إلى قرونٍ طويلة ما قبل الميلاد، فإن الأعوام الأخيرة، خاصة بعد الاتفاق السعودي - الإيراني الذي توسّطت فيه الصين عام 2023، عقدت مصر وإيران جولات من المحادثات في عُمان، وفي مايو/أيار 2023، صرّح المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي بأن طهران ترحّب بعلاقات دبلوماسية أفضل مع القاهرة، وامتد هذا المسار الإيجابي لتطوّر العلاقات، إلى أن زار الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان القاهرة نهاية العام الفائت، لحضور قمة الدول الثماني الإسلامية للتعاون الاقتصادي النامية.

في ظل الظروف الحالية، هناك خمسة عوامل يمكن للبلدان تطوير علاقتهما بناء عليها، وهي جميعها تدور حول المصالح المشتركة، من دون النظر إلى تأثيرات أخرى:

أولاً، القلق المشترك من اندلاع حرب إقليمية واسعة.

ثانياً، رغبة طهران في كسر العزلة الإقليمية، خاصة مع إصرار إدارة دونالد ترامب على تبنّي سياسة العقوبات الاقتصادية.

ثالثاً، تقاطع المصالح في ملفات إقليمية (غزة، اليمن، العراق)

رابعاً، تزايد الضغوط الاقتصادية على القاهرة، ما يدفعها نحو خيارات جديدة.

خامساً، الهدوء النسبي في ملف العلاقات الإيرانية–الخليجية، بالشكل الذي يفتح نافذة تحرّك أمام الإدارة المصرية.

دور الوساطة.. كلمة السر في انفتاح القاهرة على طهران 

مصر تمثّل دولة محورية على المستوى العربي، لم تنخرط في عداء مباشر مع إيران، كما أن لديها مواقف خارجية اتسمت دوماً بالتوازن حتى في أتون أعتى العواصف الدبلوماسية، هذا التموضع يمنحها مساحة للمناورة، ويجعلها طرفاً مقبولاً بالتأكيد لدى طهران، كما لدى خصومها، يُضاف إلى ما سبق سجل مصر الطويل في الوساطة، من القضية الفلسطينية إلى أزمة ليبيا والسودان، كذلك فإن مؤسسات الدولة المصرية، خاصة الأجهزة الأمنية والدبلوماسية، تملك خبرة في التعامل مع ملفات معقدة ومتشابكة من هذا النوع.

تصريحات الخارجية الإيرانية تؤكد أن طهران لا تبحث عن الحرب، بل هي الدولة الأكثر حرصاً على تحاشيها، كما أن موقفها من المفاوضات مع الولايات المتحدة الأميركية حول الملف النووي تقدّمي تماماً، وجلّ ما يشترطه الإيرانيون، بحسب مساعد وزير الخارجية سعيد خطيب زاده، اعتراف واشنطن بحق إيران في امتلاك برنامج نووي سلمي، وتقديم ضمانات ملموسة لرفع العقوبات الجائرة، مع تغيير السلوك الأميركي واحترام الحقوق السيادية للبلدان الأخرى. وهي شروط مقبولة تماماً، خاصة بالنظر إلى موقف طهران المبدئي الرافض لحيازة الأسلحة النووية، في ضوء وجود فتوى بخصوص هذا المضمون، لقائد الثورة والجمهورية، السيد علي خامنئي.

ذلك الموقف يأتي على العكس من نهج الأحزاب اليمينية الإسرائيلية، التي لا تكتفي بحثّ يسرائيل كاتس، وزير الحرب، على قصف إيران، بل تناشد العالم الغربي بالاحتشاد للمشاركة في هذا العدوان، والحقيقة أن بنيامين نتنياهو قد هدّد بتنفيذ ضربة عسكريّة ضد إيران أربع مرات خلال الشهرين الماضيين، تقريباً مرة كل أسبوعين، وهو معدّل مرتفع يكشف حجم هوس زعيم الليكود وعدوانيته، ذلك على الرغم مما يرشح بين الحين والآخر من أخبار تكشف عن الموقف الأميركي الرافض للخيار العسكري، لكن نتنياهو يراهن على فشل المفاوضات الإيرانية- الأميركية، كما أنه يسعى لاستصدار تقارير من وكالة الطاقة الذرية تدين إيران، عبر تقديم وثائق مزوّرة حول قيام الهيئات الإيرانية بتنفيذ أنشطة نووية سرية في السابق.

في ضوء تلك المعطيات، يمكن للقاهرة أن تلعب دور "الوسيط الناعم"، الذي يملك القدرة على تقريب وجهات النظر بين الفرقاء، فالإدارة المصرية لديها تقدير موقف كامل حول الرؤية الإيرانية لمسألة امتلاك أسلحة نووية، ويمكن الاتكاء عليه لإدارة حوار مع الأطراف كافة، ما يجنّب المنطقة ككل الانزلاق إلى الهاوية، خاصة أن الدولة المصرية تعدّ شريكاً مستقراً لدى واشنطن، وتحظى أجهزتها الاستخبارية والدبلوماسية بثقة دولية.

دور القاهرة أيضاً في هذا الملف، سيُسهم إلى حدٍ كبير في إفساد مخططات قادة اليمين الإسرائيلي، والحدّ من طموحاتهم بشكلٍ عام، ولا شك أن الدولة المصرية تنظر بقلق متصاعد إلى الأفكار التي يتبناها هؤلاء، خصوصاً في ظل التصريحات المتكررة التي تلوّح بخيار تهجير الغزيّين إلى سيناء، وهو خط أحمر استراتيجي وأمني لمصر، بالتزامن مع استمرار الحرب في غزة وما تخلّفه من ضغوط أمنية على الحدود الشرقية.

المكاسب المنتظرة

إذا ما قررت الإدارة المصرية لعب هذا الدور بفعاليّة واسعة، فإنها تقف على أعتاب مكاسب متنوعة:

أ- استعادة الدور السياسي الإقليمي بعد سنوات من التراجع.

ب-تحسين موقع مصر التفاوضي مع واشنطن والعواصم الأوروبية.

ج-ضمانات لأمن الملاحة في البحر الأحمر.

د-إمكانية تحقيق استثمارات اقتصادية عبر مشاريع إقليمية تشمل إيران والعراق ودولاً خليجية.

التحديّات المحتملة

على الجانب الآخر، من المؤكد أن طريق الوساطة لن يكون سهلاً، خاصة إذا تعلق الأمر بإيران، وتشمل أبرز التحديات:

أ-التحفّظ الخليجي على أي دور مصري، قد يُفسر على أنه انفتاح على طهران.

ب-القلق الأميركي والإسرائيلي من أن تتحوّل الوساطة إلى نافذة تطبيع إيراني إقليمي من دون تنازلات نووية.

ج-التيارات المتطرفة داخل مصر، والتي لا تزال تنظر إلى إيران كـ"تهديد مذهبي وفكري".

كيف يمكن لمصر أن تتغلّب على التحديات وتبني خريطة طريق؟

في لحظة يُعاد فيها رسم خريطة النفوذ الإقليمي، لا يصح أن تبدو القاهرة مجرد متفرج، فهي تملك العديد من الأوراق التي تمكّنها من لعب دور إقليمي أوسع، ولا شك أنها لحظة اختبار حقيقي للدبلوماسية المصرية: إما أن تستعيد زمام المبادرة، أو تظل رهينة التوازنات التي يحددها الآخرون.

وهذا المسار من الطبيعي أن يفرض نوعاً من التحديات التي يجب مواجهتها بصبر وتريّث، وسيكون الجميع مضطراً في نهاية المطاف للقبول بموقف القاهرة الساعي لإحلال السلام في المنطقة، كذلك فلا أحد يحتمل خسارة العلاقة مع بلد كبير ووازن بحجم مصر.

ويمكن للإدارة المصرية التمهيد لهذا المسار عبر قنوات الاتصال غير الرسمية (Track II)، ومن ثم الانتقال إلى المرحلة التالية عبر التنسيق مع قوى عربية كجمهورية العراق وسلطنة عمان، اللتين تتمتعان بعلاقات مستقرة مع إيران وسبق أن لعبتا أدواراً مماثلة، ويمكن الدعوة إلى منتدى إقليمي يركّز على مسألة خفض التصعيد، مع طرح مبادرة علنية تشدد على حظر الاعتداء الإقليمي، وعلى الأغلب سيحظى ذلك المسار بدعمٍ من العواصم الخليجية، بحسب إفادة موقع "أكسيوس" الإخباري، فإن قادة السعودية وقطر والإمارات عارضوا توجيه أي ضربة إلى المنشآت النووية الإيرانية خلال جولة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الشرق أوسطية، وشجعوه على التوصل إلى اتفاق نووي جديد.

تمتلك مصر ما لا يمتلكه غيرها، ولديها فرصة كبيرة لتفعيل دورها كوسيط في تخفيف التوترات الإقليمية، خاصة في الملف النووي الإيراني كما الصراع الدائر في غزة، ومن المؤكد إن استغلال القاهرة لعلاقاتها المتوازنة مع جميع الأطراف، جنباً إلى جنب مع خبراتها الدبلوماسية، يمكن أن يعزز من دورها في إعادة الاستقرار إلى المنطقة، ما يدعم أمنها واستقرارها الاقتصادي والسياسي.