هبل "السوشال ميديا"

لقد آن الأوان ليقف المستخدمون أمام مرايا ضمائرهم: هل حقاً تستحق حفنة "اللايكات" أو قطع فضة افتراضية أن تهين إنسانيتك وتُرهن مستقبل أطفالك؟ 

  • إنه
    إنه "هبل" العصر الرقمي، حيث تُسحق الكرامة تحت أقدام "اللايكات"

في سوق الوهم الصاخب الذي نسمّيه "منصات التواصل الاجتماعي"، تحوّلت شاشات الهواتف إلى منصات سيرك عابرة للقارات. لكنّ اللافت أنّ المهرّجين في هذا السيرك لم يُستقدموا من خلف الستار، بل خرجوا طواعيّة من بيننا، حاملين هوياتهم الحقيقية، ومستعدّين لبيع ضحكاتهم ـــــ أو بالأحرى ضحكات المتفرّجين ـــــ بأبخس الأثمان. 

إنه "هبل" العصر الرقمي، حيث تُسحق الكرامة تحت أقدام "اللايكات"، وتُباع الذات ـــــ بل وحميمية العائلة ـــــ في مزاد العلنية الرخيص.

لم يعد يكفي أن يُظهر المرء موهبته أو فكره، بل صار عليه أن يتحوّل إلى "كاريكاتير" متحرّك، يرقص على أنغام الإهانة الذاتية. شاب يضع البيض الفاسد على رأسه، وفتاة تتلوى على الأرض في مكان عامّ في مشهد مهين، ورجل يصرخ كالمجنون من دون سبب سوى أن عدّاد المتابعين ارتفع بضع وحدات!

كلّ ذلك في سعي محموم وراء سراب الشهرة أو حفنة من العملات الافتراضية التي لا يُعرف مصدرها الحقيقي. إنه انحدار مريع من مفهوم "النجاح" إلى وهم "الظهور"، حتى لو كان الظهور على حافة الهاوية الأخلاقية.

ولكنّ الجريمة الأفظع في هذا المسرح المزري هي تلك التي تُرتكب بحقّ الطفولة البريئة. فها هم ذوو "المحتوى"، يجرّون أبناءهم وبناتهم الصغار إلى دائرة الضوء القاسية، يلبسونهم أزياء سخيفة، أو يصوّرونهم في لحظات ضعف وبكاء، أو يدفعونهم إلى تمثيل مشاهد لا تليق ببراءتهم، كلّ ذلك لالتقاط نظرة عابرة من متابع غافل! 

يغيب عن بال هؤلاء أنّ هذه الصور والمقاطع ليست مجرد "لحظات عابرة" تُمحى، بل هي سجلات رقمية أبدية. سيُفتح هذا الصندوق الأسود يوماً ما، ليجد ذلك الطفل الذي كبر، نفسه محشوراً في زاوية الخجل، حاملاً عبء سخرية العالم لأنّ والديه باعا طفولته على مذبح الشهرة الزائفة. أين احترام خصوصيّة هذه الأرواح الصغيرة؟ وأين المسؤولية عن حمايتها من نظرات المتلصصين واستغلال المستهترين؟

هذا الوباء لم يأتِ من فراغ؛ بل هو ابن شرعي لـ "سباق التجهيل" الذي تشنّه المنصات. ففي سعيها المحموم لاجتذاب أكبر عدد من الأعين والوقت، تتحوّل الخوارزميات إلى قوّادين يروّجون للإثارة الرخيصة بغضّ النظر عن الثمن الإنساني. 

ما يثير "الانتباه" (ولو كان سلبياً) يُقدَّم على طبق من ذهب، وما يثير التفكير أو الجمال يُدفن في زوايا النسيان. إنه سباق إلى القاع، تتنافس فيه المنصات على من يكون أكثر جرأة في دفع المستخدمين نحو حافة الهاوية السلوكية، فتتضخّم دوائر الهبل وتتسع، ويتحوّل الجنون الفردي إلى ظاهرة جماعية مقلقة.

فإلى متى هذه الرقصة المزرية على أنقاض الكرامة؟ أليس في الإنسان من عزة النفس ما يردعه عن بيع روحه وصورة أطفاله بثمن بخس؟ أليس في المجتمع من قيم تحترم الذات وتصون حرمة الطفولة؟ لقد آن الأوان ليقف المستخدمون أمام مرايا ضمائرهم: هل حقاً تستحق حفنة "اللايكات" أو قطع فضة افتراضية أن تهين إنسانيتك وتُرهن مستقبل أطفالك؟ 

آن الأوان للمنصات أن تتحمّل مسؤوليتها الأخلاقية في عدم تشجيع ثقافة الإهانة والاستغلال. وآن الأوان كي نرفض، نحن المشاهدين، أن نكون جمهوراً لهذا السيرك المأساوي، فنقطع الطريق على "تجار الهبل" ببساطة بعدم المشاهدة أو المشاركة.

فليكن تجاهلنا لتلك المهازل الرقمية وعدم متابعتنا لها هو صوت كرامتنا التي ترفض الانحدار. ولتكن مشاهداتنا ومتابعاتنا دليلاً على تقديرنا للجهد الحقيقي، والفكر الرصين، والموهبة الأصيلة، لا دليلاً على استحساننا لرقصات المهرّجين على أنقاض ما تبقّى من إنسانية في فضاءٍ صار أكثر قسوةً وضحالةً يوماً بعد يوم. فالكرامة لا تُباع، والطفولة ليست سلعة، وخصوصية الإنسان ليس مادةً للتندّر.

ثمة سؤال يضمر جوابه، لماذا لا تروّج تلك المنصات لما هو جادّ وعميق ويساهم في رفع مستوى الوعي والتنوير بالمستوى نفسه الذي تروِّح فيه لكلّ ما هو سطحي وتافه ومبتذل واستهلاكي؟ 

ربما، لأننا نعيش في ذروة عصر التفاهة. الخوارزميات مبرمجة لخدمة هذا الهدف: تسطيح العقل البشري، وتحويل الإنسان إلى مجرّد كائن يستهلك ولا ينتج، يلبّي رغباته المادية ويرذل رغباته الروحية والفكرية. إنها خوارزميات "الهبل الواعي" المدرك تماماً لما تريده تلك المنصات، أو بالأحرى لمَن يتحكّم بتلك المنصات وخوارزمياتها…وللحديث صِلة.

اخترنا لك