"الطريق" لعبد اللطيف عبد الحميد.. مرارات الغياب السينمائي

المخرج السوري عبد اللطيف عبد الحميد يعود في فيلمه "الطريق" إلى بيئته الساحلية، ويحاول تلمُّس شفافيات إنسانية لبسطاء الضيعة.

يعود المخرج السوري عبد اللطيف عبد الحميد في فيلمه "الطريق" الذي كتب له السيناريو بالشراكة مع عادل محمود إلى بيئته الساحلية بعد فيلمي "العاشق" و"الإفطار الأخير"، محاولاً تلمُّس شفافيات إنسانية لبسطاء الضيعة، لكن هذه المرّة مع حمولات تربوية مباشرة، تُعلي من شأن التَّعلُّم بالوهم، وفي الوقت ذاته تنتقد الأساليب التقليدية للمنظومة التعليمية، غير القادرة على ربط العلم بالحياة.

وعبر محاكاة دقيقة لقصة أديسون الشهيرة، يرفض الجد صالح (موفق الأحمد)، قرار إدارة المدرسة الذي أجمع عليه الكادر التدريسي، حول غباء حفيده الذي يحمل اسمه (الطفل غيث ضاهر)، وعدم امتلاكه لقدرات ذهنية تسمح له بمتابعة التَّعلُّم، ليأخذ على عاتقه هذه المسؤولية، بوسائل ترفض التلقين، وتضع الحفيد على طريق الحياة الصحيحة، فيبيع قطعة أرض ويبني له صفاً دراسياً خاصاً، بعدما أقنع حفيده بأن أساتذته أثنوا على عبقريته وأنه لا يجوز له متابعة الدراسة برفقة أقرانه، وأنه بحاجة إلى مُدرِّسين جديرين بطالب مثله.

بدأ مشوار التَّعلُّم بإلزام الطفل صالح، وهو في الصف السابع، أن يكتب كل ما يشاهده على الطريق أمام منزل جده، ومن خلال المناقشة مع الجد المتقاعد من التدريس في إحدى جامعات طرطوس، يتفتح ذهن الحفيد، ويتوقَّد فهمه للحياة من خلال مقولات فلسفية لها علاقة بـ"خفّة الحياة"، وبالفرق بين الإنسان الإيجابي والنّكدي، وبجماليات اللغة العربية، وعبر الدروس الخاصة، يعرف بأن الرياضيات أكثر من مجرد أرقام ومعادلات، وبأن الفيزياء ليست مجرد صراع قوى،...

والأهم من ذلك أن ناس الطريق البسطاء يتحوَّلون في السياسة التي اتبعها الجَدّ، إلى مادة تعليمية، من مجموعة القرويين الذي يذهبون يومياً لقتال خصوم لا نعلم عنهم شيئاً، ويعودون مهزومين باستمرار، إلى مُرضِعة صالح الصغير بعد وفاة والدته (تماضر غانم) التي تحضر له قارورة حليب يومياً من عنزتها، إلى المرأة (رباب مرهج) الصاخبة دوماً والمستنكرة لبيع زوجها لأراضيه ومن ثم زواجه بأخرى، إلى الشاعر (أحمد كنعان) الذي يلقي قصائد سعيد عقل، وعنترة بن شداد، وعمر أبو ريشة،... في الهواء، ولا جمهور يعي المعاني، بل تراهم يصفقون للهباء، إلى الشخص (مأمون الخطيب) الذي يخرج الريح من بطنه طيلة الطريق نتيجة خطأ من طبيب جاهل، إلى زميلة صالح التي يحبها وتحبه، وتعطيه يومياً رغيف خبز تنور، وما يكتنف علاقتهما من اشتغالات قلبَي الطفلين العاشقين ومشاعر صادقة، وتوتّرات مديدة، إلى الأب (ماجد عيسى) الذي يأتي كل فترة من منطقة الرميلان لرؤية ابنه والاطمئنان عليه، بعدما رفض صالح أن يسكن مع زوجة أبيه الظالمة.

لتنتهي الحكاية مع نيل صالح لأعلى درجات في الثانوية العامة، وحصوله على منحة لدراسة الطب في أوروبا، وعودته إلى القرية طبيباً مختصاً بالأعصاب، وفي حفل استقباله يكشف الجَدّ السر الذي خبّأه عن الجميع طيلة 15 عاماً، وبأنه صاغ اليوميات التي كتبها حفيده، جاعلاً منها رواية بعنوان "الطريق"، وعودة وهج الحب القديم والمشاعر النبيلة التي لم تخب عند صالح رغم سنوات البعد والجفاء من قبل حبيبته.

ورغم جماليات كاميرا عبد الحميد وتتبُّعها الشفيف لطبيعة الدريكيش التي تم فيها التصوير، ولوجوه ممثليه وعُمق ملامحهم، والكوادر الباذخة التي حققها، إلا أن أبرز ما وقع فيه فيلمه هو التلقينية التي يستنكرها في نصه، خاصةً مع التكرارات المُمِضّة لناس الطريق، وتصرُّفاتهم وردود أفعالهم المتماثلة تجاه المواقف ذاتها.

ومع أنها حققت في بعض ملامحها نوعاً من الفكاهة اللطيفة المعروفة لدى مخرج "رسائل شفهية"، إلا أنها لم تكن كافية لإخراج الطريق من رتابته، خاصةً مع انكشاف المحاكاة لقصة أديسون منذ الدقائق الأولى، ثم السيرورة الأفقية للسيناريو من دون أي عوائق خطيرة أو عقبات كبيرة تعترض أبطاله، إلا إذا استثنينا موت عنزة الأم المُرضعة، أو تخلخل علاقة صالح بحبيبته بعدما اتهمته بالكذب عليها بقضية أنه عبقري كما جاء في خطاب إدارة المدرسة، ومحاولتها إثارة غيرته، بحيث جاء الفيلم (إنتاج المؤسسة العامة للسينما) من دون توترات حقيقية، وخالياً من التشويق، مع إيقاع بطيء في سرد الأحداث، واتكاء على شروح مفردات فائضة عن الحاجة، من مثل العبرة الكامنة في القصة التي رواها الجد عن أب ترك عائلته ولم يعد، لكن الأم كلما طلب منها أطفالها بعض المال لشراء حاجياتهم، فإنها تُوجِّهُهُم إلى جاكيت والدهم المُعلَّقة في الخزانة حيث تركت النقود فيها، جاعلةً من تلك الجاكيت وهماً مستمراً عن وجود الأب وعدم غيابه.

كان بالإمكان الاشتغال أكثر على موضوعة الطريق وكسب المعرفة من خلالها، ودعم صراع البطل/ الطفل مع ظروفه، وليس إظهار نجابته في التَّعلُّم بالوسائل غير التقليدية التي اتبعها جده، بحيث نستغرب خطاب إدارة المدرسة من أساسه، ليكون عبد اللطيف عبد الحميد في فيلمه الذي أهداه إلى زوجته الراحلة لاريسا وإلى شريكه في السيناريو عادل محمود الراحل أيضاً، خاضعاً لمرارات الغياب التي انعكست على جماليات خطابه السينمائي.

يذكر أنه شارك في بطولة الفيلم محمد شمّا، رند عباس، نبراس ملحم، عدنان عربيني، راما الزين، علاء زهر الدين، هاشم غزال، خالد رزق، والاستشارة الدرامية كانت لحسن سامي يوسف. مدير الإضاءة والتصوير: باسل سراولجي، ديكور: أدهم مناوي، مصممة الملابس: سهى حيدر، موسيقى: خالد رزق، مكياج: أحمد حيدر، هندسة الصوت: خلدون اليازجي، المخرجان المنفذان: علي الماغوط، علي إبراهيم، مدير إنتاج منفذ: حسن غانم، مشرف إضاءة: دريد رحال. فوكس بولر: طارق شميط، فوتوغراف ومساعد مخرج: يارا اسماعيل، سكريبت: أنس شحيبر.