كتاب "الهجرة والحضارة"

لا حضارة إلا وتسبقها هجرة، وكل الحضارات في العالم التي يتراوح عددها ما بين 27 و 29 حضارة، تخضع لهذا القانون. منذ أن اكتشف الإنسان الحرف وحتى منذ أن اكتشف النار واللباس

اعداد: علي الديري

مرحباً بكم في بودكاست ورق، أحدّثكم في هذه الحلقة عن كتاب الدكتور علي شريعتي "الهجرة والحضارة". في الحقيقة ما جعلني أعود إلى علي شريعتي هو أن هناك دار نشر أعادت الاهتمام بتراث علي شريعتي هي دار نشر عراقية  إسمها "منشورات لاوكون".

 

هذه الدار أعادت طبع كتب على شريعتي في كتيّبات صغيرة تصلح للتداول الحديث وتناسب إيقاع العصر والقارئ الذي لا طاقة له على تحمُّل المُجلّدات والكتب الضخمة.

إن موضوع الهجرة والحضارة مكتوب بنَفَس وكأنه كتاب معاصر فعلاً وليس كتاباً كُتِب قبل خمسين عاماً، وهذه واحدة أيضاً من أسرار على شريعتي أنه دائماً مُتجدّد وراهني، أي أنه بالإمكان أن تستعيد أفكاره راهناً، وهذا ما يجعل من دور النشر تُغامر دائماً بإعادة ترجمة تراثه. 

 

يكتب مقدّمة هذا الكتاب واحدٌ من المفكّرين الإيرانيين المُهتمّين بتراث علي شريعتي وهو بيجن عبد الكريمي حيث يقول إن علي شريعتي قد اهتمّ بالفكر والمعرفة خارج أطر المركزية الغربية ومركزية الاستشراق التي تجعلك مُستلَباً من ثقافتك، وفي الوقت نفسه خارج أطر المعرفة اللاهوتية والطائفية والدينية التقليدية، هو في منطقة وسطية ما بين هاتين المنطقتين، هو يستعير مقولة من مقولات ماركس "كل ما هو صلب وثابت يتبخّر ويتطاير في الهواء، وكل ما هو مقدَّس يصبح دنيوياً".

 

في الحقيقة هو لم يقدّم شرحاً توضيحياً للمقولة ولكن في الحد الأدنى نستطيع أن نفهم من هذه المقولة أن الصلب والثابت الذي يتبخّر هو الشيء الذي لا يتحرّك ولا يتجدّد ولا يُعيد خلق نفسه في صورةٍ جديدة وتلك هي الهجرة، وهذا يعني أن الشيء الذي لا يهاجر يتبخّر وينتهي من التاريخ ولا نجده.  كذلك فإن علي شريعتي يُعاد تجديده وقراءته لذلك فهو لا يتبخّر ولا ينتهي ولا ينفذ، والهجرة أيضاً فيها هذا السرّ، لماذا نهاجر؟ لكيلا نتبخّر ولا نتطاير، لكي لا يُمحى وجودنا، لكي تتجدّد أنفاسنا وخطواتنا، لكي نتنفّس نفساً جديداً ونستنشق هواءً جديداً، لكي نجدّد في الأفكار. وهذه هي الفكرة الرئيسية التي يركّز عليها علي شريعتي في كتاب "الهجرة والحضارة".

 

 يقول إن لا هجرة إلا تسبقها حضارة، وأن كل الحضارات في العالم التي يقارب عددها ما بين 27 و 29 حضارة، وبعض هذه الحضارات تمتدّ إلى خمسة آلاف سنة وبعضها إلى أكثر من ذلك، منذ أن بدأ الانسان يكتشف الحرف وقبل ذلك منذ أن اكتشف النار واللباس. يقول إن "كل هذه الحضارات السبع والعشرين أو التسع والعشرين دائماً مسبوقة بهجرة، وإذا لم تكن هناك هجرة لا تكون هناك حضارة، وهذه الهجرة هي التي تجدّد الإنسان بل إنها تحوّله من متوحّش إلى إنسان مُتحضّر مُستأنَس لأنه حين يُهاجرك شيءٌ من الوحشية بسبب نقص في الغذاء أو نقص في الأفكار أو نقص في ما يجعلك حيّاً حين تنتقل إلى منطقة أخرى تأتيك فكرة أخرى وتبدأ بسدّ هذا النقص وتشعر بالحياة وتستقرّ وتبدأ تأنس، لذلك هو وضع الهجرة كشرطٍ من شروط الحضارة، بل إنه يقول إن الحضارة هي الهجرة يعني كأنما شرط الحضارة هو الهجرة، إذا لم تهاجر فلن تتحضّر.

 

يعطينا أمثلة والمثال الأبرز لدينا في العصر المعاصر هو الحضارة الأميركية التي هي نتيجة هجرة الأوروبيين من أوروبا، وطبعاً أضيفت لهم بعد ذلك هجرة العرب والآسيويين والهنود والصينيين، هجرة العالم كله إلى أميركا، وكلما زادت هذه الهجرات تعمّقت هذه الحضارة وقويت هذه الحضارة.

 

كذلك شمال أميركا التي هي كندا هي مجتمع يقوم على المهاجرين، وهذه الهجرة الواضحة جاء لها فارّون من أوروبا، بعضهم كانوا مجرمين ومحكومين بالسجن، وبعضهم كانوا فارّين بسبب الحروب الدينية، وبعضهم بسبب الديون أي أن هناك أسباباً كثيرة تجعل هؤلاء يهاجرون إلى أميركا، وهناك يستأنسون وتخرج أفكارهم وإبداعاتهم.

هذه الحضارة اليوم تُعتبر أقوى حضارة موجودة على وجه الأرض، والناس تنظر إليها بإعجاب، وفي الوقت نفسه هذه الحضارة إذا لم تحرّك نفسها بهجراتٍ أخرى فستموت ولن تتجدّد.

إذاً ينقلنا علي شريعتي إلى نماذج لحضاراتٍ سابقة مثل حضارة بلاد الرافدين وسومر والأكاديين والبابليين والآشوريين والأخمينيين، كل هذه الحضارات يحلّلها ويقول إنها نتيجة هجرات وليست نتيجة استقرار. هؤلاء الذين كانوا في مكانهم ولم يتحرّكوا وكانت لديهم كل الإمكانات والخصب والأرض لم يبدعوا ولم ينشئوا حضارةً، ولكن بمجرّد الحركة كانوا يُنشئون الحضارات. 

 

في الحقيقة هو يقدّم هذا الفَهْم المعاصر والاجتماعي لنشوء الحضارات، وفي الوقت نفسه يحيلنا أيضاً إلى القرآن، ويحاول من خلاله ومن خلال هجرة النبي إعادة فَهْم الهجرة في مفهوم القرآن فهماً معاصراً، ويقول إن هجرة النبي ليست حدثاً وقع في التاريخ وانتهى.

 

إن هجرة النبي من مكة إلى المدينة ليست مجرّد حدثٍ وانتهى إنما هو مفهوم باقٍ ويتجدّد لأن هذا المفهوم موجود وثابت في القرآن الذي يدعو دائماً إلى الحركة والهجرة، حيث تقول الآية القرآنية: "ومَن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة" أي يجد الفرص، يجد في الأرض إمكانات هائلة لكي يتجدّد ولكي يُبدع، ولكي يخرج من الضيق الذي كان فيه ويتحرّر من الأغلال التي كانت تقيّده.

 

وهنا يعطينا كمثال أيضاً على الحروب الصليبية، يقول إنها لم تكن حروباً صليبية بل هجراتٍ صليبية، والذين جاؤوا أرادوا الاستيطان أيضاً، وحين شاهدوا العالم الإسلامي وكيف أن هجرة النبي أنشأت حضارةً وثقافةً وكتباً وأنظمةً حديثة، حين عادوا إلى أوطانهم ثاروا ضد الإقطاع الذي كان يكبّل الأوروبيين، وثاروا أيضاً ضدّ الكنيسة والفَهْم الكنسي الذي كان يكبّل الدين فَهْم الدين ويكبّل مفهوم التوبة والغفران والإيمان ومفهوم الله.

 

قاموا بثورةٍ عظيمة، يقول: "حدث ذلك بفضل الهجرات الصليبية"، هذه الهجرات أكسبتهم فَهْماً جديداً لأنفسهم وللأرض والله والإيمان والدين.

 

يقول أيضاً إن النبي إبراهيم هو المهاجر الأكبر في التاريخ، هو الذي أسّس مفهوم التوحيد، وهجرته أنشأت هذه الأديان الإبراهيمية وأنشأت هذه الأعراق السامية التي هي أعراقٌ مهاجِرة في الأرض، وأنشأت حضاراتٍ كثيرة وأدياناً، وغيّرت وجه التاريخ ومفهومه، فنموذج النبي إبراهيم هو النموذج الأكبر، والنبي محمد في هجرته كان يقتدي بجدّه النبي إبراهيم في الهجرة والتغيير والتحوّلات.

 

بهذا المفهوم الذي يقدّمه علي شريعتي للهجرة ليس الذكاء والغباء هو الذي يصنع الحضارات، كما يقول لا يوجد أصل أو عِرق يُلقَّب بالذكي وغير الذكي، لا يمكن أن نقول إن هذا العرق كان ذكياً وتمكّن من صنع الحضارة، ولا يمكن أن نقول مثلاً إن العرق الآري كان ذكياً وقام بصناعة هذه الحضارة، أو أن العرق السامي كان ذكياً وقام ببناء حضارةٍ صحيحة.

نستطيع أن نقول إن هناك عرقاً قد تحرّك وهاجر وتجدّد ووطأ أرضاً جديدة فاستطاع أن يبدأ حضارة، فالحضارات هي نتيجة هذا الحراك وهذه الهجرة وليست نتيجة ذكاء خاص، وهذا التفسير يُخرجنا من العرقيات والتعصّبات العنصرية التي تعزو للبعض ذكاءً وتسلب من البعض الآخر الذكاء، أو تعطي امتيازاتٍ خاصة لعرقٍ على آخر.

 

هو بهذه النظرة الاجتماعية الحضارية يُنشئ الحضارات وينزع استقطابات وفتيل العنصرية. الإنسان الأوروبي ليس هو الأذكى في العالم ولذلك صنع الحضارة الأوروبية والأميركية بل لأنه جاء في لحظة تاريخية، هو كان من أكثر الحضارات تحوُّلاً وسياحةً وهجرة في الأرض فتمكّن من ذلك، شكراً لكم.