كتاب "فوق مدار السرطان"

كتاب "فوق مدار السرطان" للدكتور الشيخ هادي الشيخ طه. سبق وأن قدّمتُ في كتابه "سمكة الله" سيرته مع مرضه وهو مرض ضمور العضلات. هذه المرة يُكمل الشيخ هادي سيرته، ويحدّثنا في هذا الكتاب عن مرض السرطان الذي جاء ليمتحن ما تبقّى من صبره..

اعداد: علي الديري

إعداد وتقديم: الدكتور علي الديري

 

حيّاكم الله في بودكاست ورق، أحدّثكم في هذه الحلقة عن كتاب "فوق مدار السرطان" للدكتور الشيخ هادي الشيخ طه. سبق وأن قدّمتُ السيرة الذاتية أو سيرة المرض مع الدكتور الشيخ هادي الشيخ، كان كتابه "سمكة الله" هي سيرته مع مرضه وهو مرض ضمور العضلات. تحدّثتُ هناك عن ولادته في مدينة سامراء وعن طفولته وصولاً إلى التحاقه بالجامعة في بغداد، وبعد ذلك التحاقه بالحوزة العلمية، وكذلك وصوله إلى مرحلة الدكتوراه، مسيرةٌ صعبة خاضها مع هذا المرض وهو يمشي دوماً مستعيناً بالكرسي المتحرك والعكاز ومساعدة الآخرين. 

 

هذه المرة يُكمل الشيخ هادي سيرته مع ما تضاعف عليه من المرض، يحدّثنا عن السرطان. عنوان كتابه "فوق مدار السرطان" وهو في الحقيقة يحدّثنا عن مرض السرطان الذي جاء ليمتحن ما تبقّى من صبره، ولكن والله إنني أشهد على صبره لأنني زرته في بيته بالنجف، وزيارتي هذه كانت هي الأولى. لقد زارني أثناء المحاضرة التي قدّمتها في العام 2017 في مدينة النجف، ووعدته بالزيارة ولكن الظرف لم يسمح لي بأن أزوره، ولم أتمكّن من زيارة النجف إلا هذا العام فكان من أهدافي هو التعرّف الشخصي عليه.

زرته في بيته حيث استقبلتني مجموعةً من الكراسي المتحركة الخاصة بأبنائه المصابين أيضاً بضمور العضلات. جلستُ إليه جلسة المشتاق والمتعلّم والمتأدّب في حضرته لأنه مدرسة كبرى في الصبر، إنه أيوب هذا العصر. وجدتُه فاقداً لبصره بسبب مرض السرطان الذي أصابه قبل سنتين وأجهض على الأمل أو المتبقّي من الأمل في حياته، ولكن رغم هذه القسوة الشديدة إلا ان الابتسامة والتفاؤل وقوة الطاقة التي يمنحها الشيخ هادي تجعلك في حيرةٍ وخجل لأنك لا تستطيع أن تفسّر كل هذا الصبر والاحتساب الذي لديه، وكذلك يجعلك تخجل لأنك لا تستطيع أن تتحلّى بشيءٍ مما تفيض به روحه على جلّاسه.

 

كتب الشيخ هادي الجزء الأول من سيرته مع المرض وكانت يده تكاد تفقد كل قدراتها على الإمساك بالقلم، والآن هو يكتب هذه السيرة وهو لا يستطيع أساساً أن يُمسك بالقلم، فقد بصره وفقد القدرة على الكتابة والقدرة على الرؤية. 

 

قال لي إنه يستعين بابنته الموهوبة التي تدرس في كلية اللغات بالجامعة والتي تتمتّع بقدرةٍ خارقة على الرسم. شاهدتُ إحدى رسوماتها وفي الحقيقة لم أستطع أن أميّز إذا ما كانت رسماً أم صورة. هذه البنت التي ترسم وتتدفّق بالحيوية هي أيضاً تستعين بالكرسي المتحرّك لأن عضلاتها قد أصيبت بلعنة هذا المرض.

 

وأنا في حضرته دخل علينا أيضاً ابنه الذي يشعّ طاقةً وجمالاً ولكنه في الوقت نفسه يعاني من ضمور العضلات فهو يزحف أيضاً على الأرض. كانت جلسةً إلهية لأنك تعيش وسط أناسٍ من لحمٍ ودم غير قادرين على استخدام عضلاتهم بصورةٍ طبيعية كما تستخدمها أنت لكنهم يشعّون أملاً وابتسامةً وحيويةً وترحاباً وطاقاتٍ كبيرة من الفكر والإبداع.

 

في المجلس الذي كنا فيه كانت صورة محمد الرضا الابن الذي قضى في تفجيرٍ إرهابي في العام 2017. هذا الابن كان آيةً من آيات الجمال والإبداع في الشعر والرسم، أنت أمام عائلة استثنائية حقيقةً.

 

نعود إلى كتاب "فوق مدار السرطان"، هذه التسمية كما يقول الدكتور الشيخ هادي إنه استوحاها من المدار الذي كان يدور فيه، كان المرض قد أجبره على التنقل بين لبنان والعراق وإيران والهند، هذه الدول هي فوق مدار السرطان فهو استوحى من هذه الجغرافيا ورحلاته التي كانت بين الأمل والخوف والرجاء والقنوط، كل رحلة من هذه الرحلات يحدّثنا في هذا الكتاب عنها وكيف كان يتلقّى هذه الرحلات أحياناً بلومٍ من الأصدقاء وأحياناً بحثٍّ وأحياناً بعدم رغبة منه في الذهاب، أو بيأس الإتيان بعلاجٍ يقضي على هذا السرطان اللعين الذي كمن له في مكانٍ خطير، في مؤخرة رأسه، هذه المنطقة الخطيرة التي يخشى الأطباء العبث فيها لأنها ستكون مسؤولة عن أعصاب الجسم وخصوصاً أعصاب العين، كانوا يخشون إجراء عملية تسبّب فقدانه للبصر، ولكن في الحقيقة أنه من دون إجراء هذه العملية أخذ هذا الورم الخبيث يضغط على الأعصاب حتى استيقظ في يومٍ من الأيام فوجد نفسه لا يستطيع الرؤية بإحدى عينيه. وبعد ذلك تطوّر الأمر لأن تصبح الرؤية لديه مشوّشة في العينين وصولاً إلى الكارثة الكبرى حيث فقد نظره بالكامل.

كل هذا حدث في السنتين الأخيرتين عند ظهور جائحة كورونا التي عبثت بالعالم كله، وكان هذا المرض يعبث بالشيخ هادي أيضاً. فقد الشيخ هادي القدرة على الرؤية ففقد أهم أنيس لديه وهي القراءة والكتابة، هذا الورم كان قاسياً عليه وأفقده شغفه.

في الحقيقة هو يبدأ كتابه بعبارة شديدة المعنى للمتصوّف النفري تقول: "أحدّثك فترى فإذا رأيتَ فلا حديث". أنا استوحيتُ من هذه الكلمة التي لم يشرحها مباشرةً ولكن قصته تشرح لأنه فاقدٌ للرؤية، فهو يحدّثنا بكلماته فنرى من خلال حديثه وكلماته نرى حكايته وسيرته وقصّته ومحنته، نرى صراعه مع هذا المرض ونرى كيف صاغ هذا المرض قصّته. "أحدّثك فترى، فإذا رأيتَ فلا حديث"، إذا رأيتَ كل ذلك فلا تحتاج إلى الحديث.

 

في الحقيقة إن الشيخ هادي قد رأى كل هذه المحنة وعاشها وذاقها، ولكنه يحدّثنا لكي نراه، نرى عالمه المضطرب والمركّب، نرى هذه الروح التي تشتعل فيه وعشقه للحياة، عشقه للكلمات والكتب والمعرفة والألوان والجمال، عشقه لرؤية تجلّي الله في الكون. هو لا ينفكّ عن استحضار الأبيات الشعرية وكتابتها، واستحضار الآيات واقتباسات المفكّرين والمثقّفين والأدباء الذين يتغنّون بالحياة ويصوغون كلماتهم وحكَمهم، هو يستحضر كل ذلك وهو يكتب فتشعر أنه يريد أن يقبض على الحياة ولكن الحياة خذلته، أخذت عضلات جسده وعضلات عينيه فأصبح لا يرى، هكذا أحكم السرطان مدار الحياة عليه ولم يُبقِ له شيئاً.