كتاب "عالم أفكار ابن أبي جمهور الأحسائي"

كتاب "عالم أفكار ابن أبي جمهور الأحسائي" للمستشرقة الألمانية زابينه شميتكه.. عالمٌ شيعيٌ توفي تقريباً عام 1505م، مثّل امتدادا لمدرسة البحرين العلمية بين القرن السابع والعاشر الهجري، جمع التصوف والفلسفة وعلم الكلام، فاستحق لقب "جامع الجميع".

اعداد: علي الديري

إعداد وتقديم: الدكتور علي الديري

 

حيّاكم الله في بودكاست ورق، أحدّثكم في هذه الحلقة عن كتاب "عالم أفكار إبن أبي جمهور الأحسائي" للمُستشرِقة الألمانية زابينه شميتكه Sabine Schmidtke (مواليد 1964م). نُشِرَ هذا الكتاب قبل ما يقرب من 24 عاماً ولكن ترجمه حديثا عُطفان محمود عن اللغة الألمانية وقامت بنشره جمعية إبن أبي جمهور المُهتمّة بإعادة تحقيق كل كُتْب إبن أبي جمهور.

 أولت هذه المُستشرِقة الألمانية اهتماماً كبيراً ليس فقط بتُراث إبن أبي جمهور إنما لتُراث المُعتزِلة على مستوى العالم الإسلامي، وعلى وجه الخصوص أعطت أيضاً أهميّة للتُراث العقلاني الشيعي أي ما كتبه الشيعة مُتأثّرين بالمُعتزِلة والفلسفة والتصوّف، أي إنتاج علماء الشيعة الذي تجاوز نطاق الاهتمام بالفُقه والحديث والأصول إلى العقليّات. 

العنوان الفَرْعي لهذا الكتاب "عِلم الكلام والفلسفة والعِرفان في الإسلام الشيعي الإثنى عشري في القرن التاسع".

 

اهتمّت المُستشرِقة زابينه بإبن أبي جمهور مُبْكراً، وقد ورثت ذلك عن أستاذها المُستشرِق الألماني،  فقد كتب عن إبن أبي جمهور في نهاية السبعينات. وقد تحدَّثت في زيارتها للبحرين في العام 2010 عن قصّة اهتمامها بمخطوطات العالِم الإسلامي.

إبن أبي الجمهور كما تقدّمه هي، يتميَّز بميزةٍ أساسية صاغتها في عبارةٍ جميلة "جامِع الجميع"، ماذا نقصد بذلك؟ المقصود أن إبن أبي جمهور، قد جمع جميع المدارس الفكرية والحقول والعلماء في شخصيّته، فهو جَمَعَ المُتكلّمين الذين اشتغلوا في عِلم الكلام، وكذلك جَمَعَ الذين اشتغلوا في الفلسفة المشائية، جماعة أرسطو إلى جانب مَن اشتغلوا في الفلسفة الإشراقية، من أصاحب أفلاطون، كان هناك صِراع بين هاتين المدرستين في تُراثنا الإسلامي، وكذلك إبن أبي جمهور كان جامِعاً للمُعتزِلة والأشاعِرة، ومعروفٌ عن الخلافات الكبيرة بين المدرسة الكلامية المُعتزِلية والمدرسة الأشعرية، إنه يجمع عِلم الكلام بشقّيه ويجمع أيضاً الفلسفة بشقّيها ويُضيف إلى ذلك العِرفان أو  التصوّف. إنه جامِع الجميع. وهذا يعني أن عالم إبن أبي جمهور عالمٌ غنيّ وثريّ وخَصْبٌ، وإذا أردتَ أن تقرأ لإبن أبي جمهور فلا بدّ من أن تكون مُلمّاً على الأقل بمُصطلحات علماء الكلام والفلاسفة والمُتصوّفة.

 

عاش إبن أبي جمهور في الأحساء، وهذه واحدة من عوالِمه التي تعلّم فيها، ومن الأحساء، كان يتنقّل إلى مكّة، والمدينة، والنجف، والحِلّة ومشهد، توسّعت مداركه مع هذه الانتقالات، وكان يحمل معه أفكاره ويؤلّف كتبه.

 

عاش إبن أبي جمهور هذا العالم في القرن التاسع الهجري وتوفّى في بداية القرن العاشر الهجري، قبيل قيام الدولة الصفوية. تاريخ وفاته غير معروف على وجه التحديد  ولا مكان قبره، بتتبّع سنوات تأليفات كتبه وإجازاته نتوقّع أنه توفّى في العام 1505. هذه الفترة على مستوى العالم الشيعي ليست فترة ذهبية كما هي فترة القرن الثالث أو الرابع الهجري، ولكن مدرسة البحرين العلمية ازدهرت بين القرن السابع الهجري والقرن العاشر الهجري تقريباً من 600 إلى سنة 1000 هجرية أي بين  1200 و1500ميلادية.

 

نهضة الشيعة: دراسة حال بشأن المدرسة الثيوصوفية في البحرين بين القرنين السابع عشر والثالث عشر.

 

ماذا حدث في هذه الفترة؟

 إبن أبي جمهور ينتمي إلى هذه الحُقبة، وهو واحد من أهمّ صنّاعها وأعلامها. 

هذه الفترة هي ما يمكن أن نصطلح على تسميتها (الثيوصوفية أي الحكمة الإلهية) وهنا أحيل إلى كتابٍ مهم لم تنشر ترجمته إلى الآن هو كتاب الدكتور علي العريبي عن عُلماء الشيعة في هذه الفترة ومدرسة البحرين على وجه الخصوص "نهضة الشيعة: دراسة حال بشأن المدرسة الثيوصوفية في البحرين بين القرنين السابع عشر والثالث عشر". 

هذه الفترة افتتحت بغبن سعادة والشيخ علي بن سليمان الستري، وتلميذة الشيخ ميثم، وقبورهم معروفة بالبحرين، وفي هذه الحُقبة كان الخواجة نصير الدين الطوسي.  ووُجِد لاحقا في هذه الحُقبة التي جمعت بين التصوّف والفلسفة والكلام، السيّد حيدر الآملي وبعده إبن أبي جمهور. طبعاً أنا أتكلّم عن فترة ثلاثة قرون.

نحن نتحدّث عن الفترة التاريخية التي سقطت فيها بغداد واحتلّ فيها المغول العالم الإسلام. ولكن هذا لم يكن نهاية الفكر ونهاية الفلسفة والتصوّف والفُقه كما نتصوّر، هناك مناطق مُضيئة، فالحضارة الإسلامية قوية ولا تموت، لا نتوقّع أن الهزيمة العسكرية ستستتبعها أيضاً هزيمة فكرية وحضارية، الحضارات التي لديها كُتُب ومؤلّفات وحبر لا تنتهي بل تبقى تتدفّق بل إنها تهزم مَن يهزمها عسكرياً وهذا ما حدث، المغول في النهاية أسلموا.  

 

هناك تفاعُل حَدَثَ في هذه الفترة بين الفكر الشيعي الإمامي والفكر الفلسفي والصوفي الذي ينتمي إلى مدرسة إبن سينا والسهروردي وإبن عربي. هذا التفاعُل الخصب الذي حدث أنتج لنا شخصية بمستوى شخصية إبن ميثم وأستاذه علي بن سليمان، هؤلاء هما أوّل مَن تأثّرا بمدرسة إبن عربي وأعادا إنتاجها بطريقتهما الخاصة، أي أنهما لم يخرجا عن المدرسة الإمامية، ولكنهما أضافا إليها ثراءً كبيراً. 

السيّد حيدر الآملي الذي جاء بعد السيّد ميثم البحراني استمدّ تبريره لتأثّره بالتصوّف بمدرسة أهل البحرين، أي بالشيخ علي بن سليمان ومدرسة الشيخ ميثم، كان يحتجّ بهما لأنهما علماء كبار ومعروفان في تلك الفترة، وكانت لهما صلات وثيقة جداً بنصير الدين الطوسي، هذا العالِم الفذّ الذي بنى مرصد مراغة. 

إبن أبي جمهور هو امتدادٌ لهذه المدرسة، وقد تأثّر بكل مَن أسهم فيها، عالم الأفكار التي كان يسبح فيها، ينهل من كل هذا التُراث الذي تراكم على مدى قرون في كتاباته. وحقيقةً هذه الفترة تذكّرنا بفترةٍ خصبةٍ هي فكرة الشيخ المفيد والسيّد المُرتضى والسيّد الرضي وشيخ الطائفة بعدهم الطوسي الذين كانوا في بغداد في فترة حُكم وزراء الدولة البويهية، شكّلوا العصر الذهبي وكان التفاعُل على أشدّه بين كل التيّارات الفكرية العقلانية خصوصاً بعد أن أتاحت الدولة البوبهية للتيّار المُعتزلي بأن ينشط بعد أن قضى عليهم المتوكّل، فصار لدينا إنتاج هائل وعصر ذهبي، هذا ما عبّر عنه أركون بالنزعة الإنسية أو الإنسانية، وأبرز رموزها إبن مسكويه والتوحيدي. 

بعد ذلك جاء السلاجقة وأحرقوا مكتبة الشيخ الطوسي، ودخلنا في عصرٍ بائسٍ ثقافياً، وفي أنتجت نصوص التوحّش التي فصّلتها في كتابي "نصوص متوحّشة". لكن كما قلنا الإنتاج الثقافي لا يموت في حضارتنا، فمع إبن عربي انبعثت روح جديدة،  وكانت مدرسة البحرين في مقدّمة مَن تلقّفها. وبالمناسبة في هذه الفترة لم تتبلور بعد المدرسة الأخبارية والمدرسة الأصولية، ولم يكن العلماء يستخدمون ألقاب آية الله، كانت الألقاب قريبة من جو التصوّف،  مثل كمال الدين، وجمال الدين، الشيخ ميثم البحراني كان يُلقَّب بكمال الدين، وأستاذه الشيخ علي بن سليمان يُسمّى جمال الدين، وكذلك إبن سعادة أستاذ علي بن سليمان يُسمّى جمال الدين، وقبورهم معروفة في البحرين في جزيرة سِترة. 

الخلاصة التي يمكن أن نصل إليها في التعريف بإبن أبي جمهور أنه كان جامِعاً الجميع، جامِع كل هذا الإنتاج، وبهذا الجَمْع هو استطاع كما تقول المؤلّفة أن يتجاوز المُناكَرة والمُشاجَرة التي سادت في عصره بين الأشاعِرة و الأشاعِرة والمتصوّفة وكذلك بين الفلسفة المشائية والفلسفة الإشراقية. حين تقرأ في كتبه ستجد هذا الجَمْع الغني، والمؤلِّفة خصَّصت فصولاً لحياته ثم لمباحثه في الإلهيات، وما يتعلّق بها من مباحث مثل التوحيد والعدل والنبوّة والميعاد والوَعْد والوعيد. في كل مبحث سنجد آراء المُتصوّفة والأشاعِرة والفلاسفة واختلافاتهم حول هذه المفاهيم اللاهوتية،  فقد كانت محل خلاف وجَدَل وتكفير بين الاتجاهات الفكرية المُتعدِّدة، كانت هناك مُناكَدة ومُشاجرة.

 جاء إبن أبي جمهور ليمزج هذه المُناكدات والمُشاجرات في وحدةٍ واحدةٍ منسجمةٍ مستويةٍ، وهو بهذا يواصِل الطريق الذي اختطّه إبن عربي في أن تكون هناك (وحدة وجود) جامِعة، ليس بالمعنى السلبي الذي أفهمنا إيّاه السلفيون وهذه استعرضتُها بالتفصيل في كتابي (لماذا نكفّر)، أحيلكم إليه لأن فكرة وحدة الوجود فُهِمَت بشكلٍ خاطئ، فهو شكّل وحدة وجود جامِعة ( جامِع الجميع).

إبن أبي جمهور حين يأتي إلى مفهوم النبوّة أو العَدْل أو الألوهية والتوحيد بدلاً من أن يتّخذ الطريقة التي يتّخذها علماء الكلام في المُناكَدة والمُشاجَرة وتكفير الآخرين، وإثبات أحقّية مذهبٍ على مذهبٍ آخر، جاء ليقول بألا فَرْق ما بين الطرح المُعتزلي والطرح الأشعري والطرح الفلسفي، كلها عبارات وتعبيرات يمكن أن نعيد صوغها لنجمعها مع بعضها. إنه خرج لنا بجامٍع جميل غير مسبوق، تستطيع من خلاله أن توحِّد ما يبدو أنه مُتنافِر، أو ما يبدو بأنه مُتضاد بين كُفْر وإيمان، لتتلقّاه على أنه معرفة تُقرّبك إلى الله وتُعرّفك بالتوحيد وبالمعاد والألوهية.

 

وهنا أستحضر عبارة جميلة عثرتُ عليها في كتاب السيّد حيدر الآملي في كتابه "جامِع الأسرار ومنبع الأنوار" وهو من الشخصيات المُلْهِمة لإبن أبي جمهور، يقول "الولاية باطِن التوحيد"، مفهوم الولاية مركزي في الخطاب الصوفي، وهو مفهوم مركزي في الخطاب الشيعي، فكيف بالإمكان أن نأخذ من الخطاب الصوفي كما يقدِّمه إبن عربي وكما يقدّمه السيّد حيدر الآملي، ما يجعلنا نفهم الولاية ونفهم التوحيد بعُمقٍ في العقيدة الشيعية، هكذا أفترض كانت مدرسة إبن أبي جمهور تفكر.

الله في ذاته لا يمكن أن تصل إليه، أنت تصل إلى الله عبر صفاته وعبر أسمائه وهذا ما يُسمّيه إبن عربي الألوهية. الأسماء والصفات تشكّل باطن التوحيد وهذه الصفات تتجلّى في الأولياء، خاتَم الأولياء وهو الوليّ الذي يتمثّل صفات الله على نحو الكمال في سلوكه، وصولاً لمفهوم الإنسان الكامِل. كمال الدين، جمال الدين، هذه الألقاب التي كانوا يُطلقونها على العُلماء، لقب كمال الدين يستحقّه العالِم حين تظهر فيه صفات الكمال الإلهية، وجمال الدين يستحقّه حين تظهر فيه صفات الجمال الإلهية، وبقدر ما تظهر فيه تكون ولايته. بالمفهوم الشيعي الولاية، تكون لهذا الإنسان الكامِل الذي هو الإمام.

أنت تصل إلى التوحيد وتقترب من التوحيد ليس بأن ترى الله، ليس بأن تعرف الله في ذاته، هذا مستحيل ولكن أن تعرف الله في صفاته. كيف أعرف الله في صفاته؟ عبر أوليائه، فهؤلاء ختم الله في سِيَرهم وفي سلوكهم وفي شخصيّاتهم، ختم صورته أي ختم صفاته الكاملة فيهم، فأنت تصل إلى الله عبر هؤلاء الأولياء، فتوحّده، هكذا تكون الولاية باطِن التوحيد.

 

طبعاً هناك منطقة خلاف في مفهوم الولاية بين المُتصوّفة وبين الإمامية، ولكن هناك قَدْر كبير من الاشتراك، هناك مفاهيم تُتبادل بين هؤلاء العلماء وبالتالي يُثْرون عبرها خطابهم اللاهوتي الذي يتحدّث عن الله وعن الميعاد وعن القيامة وعن الوعد والوعيد وعن النبوّة، وعن العدالة، هذه مفاهيم خطيرة في الثقافة وفي الدين، فإذا لم تُفْهَم على طريقة إبن أبي جمهور أو جامِع الجميع الذي يتجاوز المُناكَدات والمُشاجرات تتحوّل إلى مادةٍ للتكفير وللعنف والتقتيل.

إبن أبي جمهور قدّم لنا نموذجاً في تجاوز ذلك، والمُستشرِقة قدّمت لنا نظرةً موسوعية كبيرة لأعمال وإسهامات إبن أبي جمهور، وهو يُجلي مرآة الألوهية لنرى فيها جمال الله وكماله كما ختمها في الإنسان.