"المونيتور": الأتراك من أصول أفريقية يسعون إلى إبراز دورهم في النسيج الثقافي التركي

غالباً ما يُخلط بينهم وبين السياح في بلادهم، يستخدم الأتراك من أصول أفريقية الطقوس والفنون والتاريخ الشفهي لإثبات مكانتهم في تاريخ تركيا.

  • "المونيتور": الأتراك من أصول أفريقية يسعون إلى إبراز دورهم في النسيج الثقافي التركي

موقع "المونيتور" الأميركي نشر مقالاً  يناقش أوضاع الأتراك من أصول أفريقية في تركيا، من خلال استعراض جذورهم التاريخية في العهد العثماني والجمهوري، ومحاولاتهم للحفاظ على هويتهم الثقافية، وتجارب الاندماج والتمييز الاجتماعي الذي يواجهونه.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

في أحد الأيام الدافئة الأولى من شهر أيلول/سبتمبر، تجمّع أفراد من المجتمع التركي من أصل أفريقي في وسط مدينة إزمير، غربي تركيا. وارتدت النسوة فساتين مطبوعة زاهية اللون وأغطية رأس ملكية فوق شعرهن المضفر. كما ارتدى بعض الرجال أقنعة خشبية، في حين رقص شباب يرتدون تنانير من القش على إيقاع الطبول. لا يُعد مهرجان "دانا بايرامي"، أو مهرجان العجل، عرضاً ترفيهياً فحسب، بل هو أيضاً وسيلة للبقاء على قيد الحياة والحفاظ على ثقافة الأتراك من أصول أفريقية حية، في وقت يخفت بريقها ويتضاءل عدد أتباعها. 

وغالباً ما يجري تصوير الأتراك من أصول أفريقية على أنهم من نسل الأفارقة المستعبدين الذين جُلِبوا إلى الإمبراطورية العثمانية في وقت مبكر من القرن الـ16، إلا أنّ تاريخهم يُعدّ أكثر تعقيداً. فقد كان من بينهم رجال أحرار جرى تجنيدهم في الجيش العثماني، وعمّال زراعيون مُنحوا أراضي في أواخر الإمبراطورية وأوائل الجمهورية، وعائلات أعيد توطينها من خلال التبادل السكاني التركي - اليوناني عام 1923. وتزوج الكثير منهم بأتراك محليين، الأمر الذي زاد من طمس الفروقات الواضحة.

واليوم، يرفض الأتراك من أصول أفريقية تصنيفهم ضمن سياق العبودية أو الشتات. كما أنهم يقاومون تأطير نضالهم في إطار سياسات عنصرية صريحة. وبدلاً من ذلك، تُركّز جمعياتهم على الانتماء الوطني والاندماج، لا على الانفصال. وفي هذا الصدد، قال أورهان تشيتينبيلك، رئيس جمعية الثقافة والتضامن والمساعدة الأفريقية، في مؤتمر حول الأتراك من أصول أفريقية في إزمير في الـ20 من أيلول/ سبتمبر: "قصتنا مختلفة عن قصة الأميركيين من أصول أفريقية أو الأوروبيين من أصول أفريقية. للأتراك من أصول أفريقية لغة واحدة وبلد واحد وثقافة واحدة. بدايةً، كانت هناك الإمبراطورية العثمانية ومن ثم الجمهورية التركية. وقد شاركنا في حروبهما، بما فيها حرب الاستقلال الوطنية". 

وتشير السجلات إلى أن الأفارقة خدموا كمخصيين وجنود في عهد العثمانيين منذ القرن الـ17. وبعد إلغاء العبودية عام 1857، عمل عدد كبير من الأتراك من أصول أفريقية في الزراعة أو خدمة الدولة، ومعظمهم في الجيش أو قوات الأمن. والبعض منهم برز اسمه عالياً في المجتمع التركي، مثل أحمد علي تشليكتن (1969–1883)، الطيار الذي عاش في أواخر العهد العثماني والحكم الجمهوري، ويُحتفى به كأحد أوائل الطيارين من أصل أفريقي في العالم؛ والكاتب والصحافي أورهان كول أوغلو، ذو الأصول الليبية، الذي شغل منصب الملحق الثقافي التركي في العواصم الأوروبية في الستينيات، ثم رئيس مديرية الصحافة والإعلام خلال السبعينيات. 

مع ذلك، لا يزال الظهور والاعتراف بهم كأتراك من أصول أفريقية أمراً صعباً. فغالباً ما يُخلط بينهم وبين المهاجرين أو السيّاح الأفارقة. وفي حديثه إلى موقع "المونيتور"، قال المصوّر الفرنسي فيليب دوبويش: "مشيتُ مع أورهان تشيتينبيلك مرةً في كاديفكالي. فناداه تلامذة المدارس بالإنكليزية. وعندما أجاب بالتركية باعتبار أنه تركي مثلهم، صُدموا. لقد كانت لحظةً أظهرت لي مدى قلة معرفة هذه القصة، حتى في منطقة بحر إيجة، حيث يعيش معظمهم. فتخيّلوا بقية البلاد".

التراث والذاكرة

أمضى دوبويش السنوات الـ3 الماضية في توثيق المجتمع التركي من أصل أفريقي ويُعدّ معرضه "روح الأتراك الأفارقة"، المُقام حالياً في المركز الثقافي الفرنسي بإزمير، أحد أكثر المساعي طموحاً حتى الآن لتوثيق تاريخهم غير المعروف. وقد صُوّرت أعماله في أحياء باسماني، وهاسكوي، وكاديفكالي، وغيرها من أحياء إزمير، وتركز صوره ومشاهده من هذه المجتمعات على المنازل والساحات العامة والطقوس، بما في ذلك مهرجان العجل.

وبالنسبة لدوبويش، لا يركز المشروع على التوثيق بقدر ما يركز على الشهادة والاحترام. ولأنه عاش في جزيرة "ريونيون" (Réunion)، فقد اهتم بمجتمعات ما بعد العبودية. وفي هذا الإطار، قال إن "ما يحتاجونه اليوم هو مشروع أكبر يروي فيه كبار السن في المجتمع قصصهم، حتى لا تضيع معهم. والآن هو الوقت المناسب للقيام بذلك، ما داموا قادرين".

ويعود الفضل الأكبر في إحياء تاريخ الأتراك من أصول أفريقية إلى الراحل مصطفى أولباك، الذي أسس عام 2006 جمعية الأتراك الأفارقة في أيفاليك، ثم انتقلت لاحقاً إلى إزمير. وقد عُدّلت مذكراته بعنوان: "كينيا-كريت-إسطنبول: سير ذاتية بشرية من ساحل العبيد" (Kenya-Crete-Istanbul: Human Biographies from the Slave Coast)، لاحقاً لتصبح فيلماً وثائقياً يُعرض على قناة TRT، مُمثلةً بذلك أول اعتراف بتاريخ الأتراك من أصول أفريقية على التلفزيون الوطني.

وفي عام 2007، سعى أولباك إلى إحياء تقليد مهرجان العجل شبه المنقرض، والذي ربما كان يُقام في بعض القرى، لكنه افتقر إلى التنظيم المركزي. وحالياً، تدعم بلدية إزمير هذا المهرجان. وعندما توفي أولباك عام 2016، ترك إرثاً مستمراً من خلال مشاريع التاريخ الشفوي، مثل مشروع "أصوات من الماضي الصامت" (Voices from a Silent Past)، المموّل من الاتحاد الأوروبي، والذي وثّق ذكريات 100 تركي من أصول أفريقية.

مجتمع مرن

لا أحد يعلم بالضبط عدد الأتراك من أصول أفريقية. وقد أشارت بيهان توركولو، من قادة هذا المجتمع، إلى "أننا لا نفكر أبداً بالأعداد. نحن كثيرون في بحر إيجة وتراقيا، وهناك البعض في كارامان وقونية ومنطقة البحر الأسود. بعضهم ذو بشرة سمراء والبعض الآخر أبيض تماماً". وأضافت ضاحكة: "تتلاشى ألواننا عندما يختلط بعضنا ببعض".

تعكس عائلة توركولو هذا الامتزاج في التراث. فقد هاجر أسلافها من جهة أمها إلى مقدونيا في منتصف القرن الـ19، ثم أُعيد توطينهم في إزمير خلال التبادل السكاني التركي - اليوناني. ويشمل نسبها الأبوي أجداداً أفارقة وعرباً وأتراك اليوروك. وفي معرض تعليقها على هذا الأمر، قالت: "في عائلتي، يمكنكم رؤية جميع تدرجات الألوان، من الأسود الداكن إلى الفاتح مع الشعر الأشقر والعيون الخضراء".

وقد أفاد أتراك من أصول أفريقية من ذوي البشرة السمراء بأنه يُطلق عليهم لقب "عبيد" أو "عرب"، وبأن الشرطة توقفهم وتستجوبهم بشأن هويتهم أو يتعرضون للسخرية في المدرسة. ويقول البعض إنهم يتجنبون الحشود الكبيرة، بحيث يشعرون بأنهم مُراقَبون. ويفضّل كثيرون البقاء في بلدات إيجة الصغيرة، والعمل كمزارعين أو حرفيين، بدلاً من العيش في المدن الكبرى، حيث قد تكون الأحكام المسبقة أشد وطأة.

وأوضح فريد غوكتشن، وهو سائق حافلة صغيرة متقاعد يبلغ من العمر 75 عاماً، إلى إنه كان يُلقّب بـ"بلاكي". وقال لموقع "المونيتور": "في شبابي، كنت ضخماً وطويل القامة وأسمر البشرة، وكان شعري أسود وكثيفاً ومجعّداً. لكنني كنت قوياً جداً، لذا لم يكن بإمكانهم مناداتي بأسماء سيئة آنذاك. ومع تقدمي في السن، اصبحتُ أكثر هدوءاً. واليوم يلقبونني برمزي العربي، ولا أمانع ذلك إطلاقاً". 

كما أشار غوكتشن إلى المرأة الجالسة بجانبه، مورفيت غوني، البالغة من العمر 67 عاماً. بشرتها فاتحة، وشعرها الأبيض مغطى بحجاب أسود. وقال: "انظروا، إنها بيضاء تماماً. لديّ طفلان. أحدهما داكن البشرة مثلي، والآخر أبيض البشرة."

استعادة السردية

لعقود من الزمن، غاب الأتراك من أصول أفريقية عن الساحة السياسية. وفي عام 2018، ترشح رجلان تركيان من أصول أفريقية للبرلمان، أحدهما عن حزب الشعوب الديمقراطي والآخر عن حزب الخير. وعلى الرغم من تعرّضهما للخسارة، إلا أنّ ترشيحهما كسر حاجز الصمت الذي لزم طويلاً. 

إضافة إلى ذلك، ظهر الأتراك من أصول أفريقية على المسرح والشاشة، مثل المغنية إسمراي والراقصة ميليس سوكمان ولاعب كرة القدم هادي تركمان، إلا أنه غالباً ما يُنظر إليهم من خلال الصور النمطية أو في الخلفية. واليوم، يطالب قادة هذا المجتمع برواية مكتوبة بشروطهم الخاصة، باعتبارهم مواطنين وورثة ماضٍ متنوع وممثلين عن لون آخر في النسيج التركي.