"نيويوركر": الوجه الآخر لفضيحة "سيغنال غايت"
الخرق الأمني الاستثنائي لإدارة ترامب أثار صدمةً وسخريةً وغضباً عارماً. وشاهد عيان في اليمن يصف ما حدث عندما بدأت القنابل بالسقوط.
-
استشهد عشرات المدنيين في ضربات الولايات المتحدة على اليمن جلّهم من الأطفال والنساء
مجلة "نيويوركر" الأميركية تنشر مقالاً يتناول الضربات الأميركية على اليمن، والتي أسفرت عن استشهاد عدد من المدنيين. كما يناقش الجوانب القانونية والسياسية المرتبطة بهذه الهجمات، ويثير تساؤلات حول صلاحيات الرئيس الأميركي في اتخاذ قرارات الحرب من دون موافقة الكونغرس.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرف:
في صباح يوم 14 آذار/ مارس، وبينما كان وزير الدفاع بيت هيغسيث ونائب الرئيس جيه دي فانس يناقشان هجوماً أميركياً محتملاً على أهداف للحوثيين في دردشة عبر تطبيق "سيغنال"، كان حمد، وهو طفل يمني يبلغ من العمر 5 سنوات لا يزال على قيد الحياة. كان قد أمضى يومه بالتجوّل في أرجاء المدينة مع والده، وعندما حلّ الليل عاد إلى منزله ولعب في الفناء مع أبناء عمومته وعلى الأرجح أنه تناول الكثير من الحلوى.
خلال محادثة في مجموعة تحمل اسم "Houthi PC Small Group"، ضمّت كبار مسؤولي الأمن القومي، بدا فانس قلقاً من الانجرار إلى صراع آخر هامشي بالنسبة إلى المصالح الأميركية. وكانت العملية تهدف إلى تعطيل قدرة الحوثيين على مهاجمة السفن التجارية والسفن العسكرية الأميركية الموجودة في البحر الأحمر، وهو ما كانوا يفعلونه منذ عام ونصف تقريباً، رداً على حملة القصف الإسرائيلية على غزة. وطرح فانس إمكانية تأجيل الضربات حتى تتمكن الإدارة من العمل على "الرسائل" العامة. فقال له هيغسيث: "أتفهم مخاوفك"، لكن الرسائل ستكون "صعبة" بغض النظر عن التوقيت، موضحاً أن "لا أحد يعرف من هم الحوثيون".
لم يدُم النقاش طويلاً، وما هي إلا نصف ساعة حتى اقتنع فانس. وفي اليوم التالي، ومع انتهاء صلاة المغرب وإفطار العائلات في شمال اليمن، قال هيغسيث للمجموعة في واشنطن إنّ "الجوّ مناسب، وقد تأكدنا للتو من القيادة المركزية الأميركية أننا جاهزون لبدء المهمة". وبعد ذلك بوقت قصير، أُطلقت مجموعة من الطائرات المقاتلة من طراز "إف-18"، وهي أولى الضربات المتعددة التي وُجهت لليمن.
وقبيل الساعة الواحدة صباحاً، استيقظ رجل سأدعوه حسن، طلب عدم ذكر اسمه الحقيقي حرصاً على سلامته، على صوت مدوٍّ. كان منزله في منطقة قحزة بصعدة يهتز. وعند سماع دوي انفجار آخر تحطمت نوافذ منزله، وبعد ذلك توالت الضربات. وقال لي: "كان دويّ القصف الجوي مختلفاً تماماً عن الهجمات السعودية، لأنه كان مرتفعاً جداً وضخماً" في إشارة إلى حملات القصف المنتظمة التي شنّها تحالف تقوده المملكة العربية السعودية ضد معاقل الحوثيين منذ عام 2015.
امتلأت غرف المنزل بالدخان والغبار، فسارع حسن إلى إخراج أطفاله المذعورين منها. وقسّم عائلته إلى مجموعات صغيرة ووزعها على منازل الأقارب، ثم عاد إلى موقع الغارة. لقد أسفر الهجوم عن تدمير منزل جاره المكوّن من طبقتين، على بُعد حوالى 100 متر من منزله. أخبرني حسن أن المنزل كان مُلكاً لمسفر رقعة، وهو بدويّ من مديرية كتاف شمالي البلاد، وصل إلى الحي قبل نحو 6 سنوات. وكان لرقعة عدد من الأبناء المتزوجين؛ لذا، كان المنزل يعجّ بالنساء والأطفال، كما كانت الحال في تلك الليلة.
حضر أشقاء حسن إلى المكان، للبحث بين الأنقاض عن جثامين أفراد العائلة. وقال: "لقد كانت أجسادهم متناثرة وممزقة إلى أشلاء". وانتشل رجال الإنقاذ جثثاً مُشوّهة، من بينها جثمان حمد، الصبي ذي السنوات الخمس؛ ودارين، الطفلة ذات السنوات الثلاث، اللذين نُقلا على وجه السرعة إلى مستشفى في العاصمة اليمنية صنعاء، إلا أنّ حمد ما لبث أن فارق الحياة.
وقال حسن إنّ الطفل قد "شُوي"، مضيفاً بهدوء أنّ المشهد كان مرعباً. وفي وقت لاحق، أرسل لي صوراً لدارين كانت متداولة في وسائل التواصل الاجتماعي، وهي متصلة بأنبوب تنفس، وجسدها مغطى بالضمادات ووجهها مليء بآثار الحروق. وخلال البحث بين الأنقاض عثر السكان المحليون على بقايا صواريخ "توماهوك"، والتي أكدت منظمة "Airwars"، وهي منظمة بريطانية غير ربحية تتعقب الأضرار التي تلحق بالمدنيين في مناطق الصراع، أنها كانت الذخائر المستخدمة في الضربة.
لقد أثار النقاش الذي أُطلق عليه اسم "سيغنال غايت" قدراً كبيراً من الصدمة والسخرية والغضب، ما يوضح عدم كفاءة إدارة ترامب في مناقشة خطط الحرب عن علم، عبر تطبيق هاتف تجاري ودعوة صحافي إلى المناقشة من دون دراية. إلا أنّ البيت الأبيض أصرّ على أنه لم يكشف عن أي "خطط حربية". ولم يجرِ الحديث كثيراً عن الضربات نفسها، التي تثير مجموعة من الأسئلة، بما في ذلك عن ماهيّة أهداف الولايات المتحدة في اليمن، وبموجب أي سلطة قانونية تسعى إلى تحقيق هذه الأهداف.
وسبق لرؤساء أميركيين أن ضربوا اليمن من قبل، بذريعة قانون تفويض استخدام القوة العسكرية، وهو قرار مشترك صدر بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، والذي أعطى الرئيس السلطة لمهاجمة أهداف إرهابية في بلدان أجنبية من دون "إعلان حرب" رسمي. إلا أنّ ترامب لم يتذرّع بقانون تفويض استخدام القوة العسكرية؛ بل ردّد ما قاله مساعدوه من أن شنّ هجمات لأغراض دفاعية يُعد من صلاحيات الرئيس الدستورية. ويبدو أنّ أسلافه أيضاً كانوا يتصرفون بموجب هذه الصلاحيات. ففي الآونة الأخيرة، واصلت إدارة بايدن ضرب أهداف للحوثيين، من دون موافقة الكونغرس، حتى بعد شطب الحوثيين من قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية. وفي هذا السياق، قال مات داس، نائب الرئيس التنفيذي في "Center for International Policy"، وهو مركز أبحاث متخصص في السياسة الخارجية في العاصمة واشنطن: "لقد دأب رؤساء الولايات المتحدة لسنوات على تأكيد صلاحياتهم الواسعة في استخدام القوة العسكرية، في ظل سلطات قانونية مشكوك فيها، ومعارضة ضئيلة نسبياً من الكونغرس. وهذا أمر بالغ الخطورة، بغض النظر عمّن يتولى الرئاسة، وخاصة مع شخص مثل ترامب".
فأعمال إدارة ترامب العدائية في اليمن تبدو أكثر توسعاً من الحملات السابقة، إذ لم تستهدف مواقع أسلحة الحوثيين فحسب، بل استهدفت أيضاً منازل قادتهم الكائنة في المناطق السكنية. وأكثر ما يثير القلق هو تلميح ترامب إلى إمكانية الانخراط مطولاً في هذه الأعمال. فقد تعهد قائلاً: "سنستخدم القوة المميتة الساحقة حتى نحقق هدفنا". ولا يزال هناك غموض بشأن الحق الذي يتمتع به الرئيس في شنّ هجمات متكررة على دولة أجنبية من دون موافقة الكونغرس.
وإضافة إلى هذا الجدل القانوني، تُثير قضية "سيغنال غايت" تساؤلات حول موثوقية الاستخبارات الأميركية. ووفقاً لوزارة الصحة اليمنية، قُتل أكثر من 50 شخصاً في الغارات، وجُرح أكثر من 100. وأصابت إحدى الهجمات مركزاً لعلاج السرطان قيد الإنشاء وأخرى أصابت منزل مسفر رقعة.
أشار حسن إلى أنّ مسفر رقعة وأبناءه الأربعة لم يكونوا في المنزل لحظة سقوط الصواريخ. كانوا في المسجد لأداء صلاة التراويح في وقت متأخر من الليل خلال شهر رمضان المبارك. وقد أظهر مقطع فيديو نُشر في "فيسبوك" لحظة عودتهم إلى المكان الذي كان فيه المنزل سابقاً، وبضعة رجال يساعدون شخصاً يتعثر وسط ضوء المصابيح الأمامية كان متوجهاً نحو الحطام. وبعد ثوانٍ، اخترق صراخ عالٍ صخب الأصوات المذعورة. وبحسب حسن، كان ذلك عبد الله، أحد أبناء مسفر ووالد دارين وحمد.
وأخبرني حسن لاحقاً أنّ رجال الإنقاذ الذين حفروا بين الأنقاض أحصوا 15 شهيداً، جميعهم من النساء والأطفال. ومن بين هؤلاء الأطفال رسالة، 13 سنة؛ وصالح، 9 سنوات؛ وعبد الله، 6 سنوات؛ ونظام، 6 سنوات؛ وعبد القادر، 5 سنوات؛ وهادي، 3 سنوات؛ ومطلق، رضيع حديث الولادة قُتلت والدته أيضاً.
ولم تتمكن مجلة "نيويوركر" من التحقق بشكل كامل من رواية حسن، إذ يكاد يكون مستحيلاً على الصحافيين الأجانب الوصول إلى صعدة في الوقت الراهن، إلا أنّ التقارير الإخبارية والمنشورات العامة في وسائل التواصل الاجتماعي حول تلك الليلة أحصت مدنيين من بين الشهداء. وبعد وقت قصير من بدء الهجمات، أعلن ترامب عبر منصة "تروث سوشال" (Truth Social) أنه أمر الجيش "بشن عمل عسكري حاسم وقوي".
يواصل البيت الأبيض في عهد ترامب، كما في عهد أسلافه، التأكيد أنّ الحوثيين مدعومون من إيران. لكن الجماعة انبثقت من ديناميكيات سياسية محلية.
بعد سيطرة الحوثيين، بدأت القوى الإقليمية والعالمية، التي تخشى توسع الجماعة، بقصف البلاد والإغارة عليها. ودعمت الولايات المتحدة حملات القصف التي تقودها السعودية، ودعمت الحصار البحري والجوي، وفرضت نظام عقوبات.
تواصل الولايات المتحدة قصف اليمن. ومؤخراً، نشر ترامب مقطع فيديو بالأبيض والأسود، جرى التقاطه من الجو، لقنبلة تسقط على مجموعة من حوالى 70 شخصاً يقفون في حلقة، وصفتها وكالة أنباء تابعة للحوثيين لاحقاً بأنها لقاء اجتماعي بمناسبة عيد الفطر. غطى الدخان الشاشة، وفي غضون ثوانٍ، ظهرت حفرة. وكتب الرئيس: "هؤلاء الحوثيون تجمعوا لتلقي تعليمات بشن هجوم. عفواً، لن يكون هناك أي هجوم من قبل هؤلاء الحوثيين!".
في المقلب الآخر، يُعاين مسفر رقعة وأبناؤه الأضرار الكارثية التي طالتهم. قبور زوجاتهم وأطفالهم المتوفين حديثاً مُصفوفة بدقة، نتيجة غارة جوية اتُّفق عليها على عجل، عبر رسالة نصية من على بُعد آلاف الأميال. "قلوبهم محطمة. يبكون كل يوم، مستذكرين العائلة التي اختفت من دون أي مبرر".
نقلته إلى العربية: زينب منعم.