عبقرية الحياة في قطاع غزة

يتمحور الصراع العربي الإسرائيلي على الأرض، والسؤال يظل دائماً هو: من سيتخلى عن أمله في تحقيق النصر النهائي أولاً؟، ومن سيفقد صبره: أصحاب الأرض من الفلسطينيين، أم الوافدون إليها من كل بقاع العالم؟

  • من يفقد الأمل.. يخسر وجوده.
    من يفقد الأمل.. يخسر وجوده.

تفيد تقارير منظمة الصحة العالمية بأن واحداً من بين كل 15 شخصاً يكون معرّضاً للإصابة باضطراب نفسي في الأحوال العادية، لكن في ظروف الحروب والنزاعات فإن النسبة ترتفع، ويصبح واحد من كل خمسة أشخاص عرضة لخطر الاكتئاب والميل إلى العزلة والانسحاب من الحياة.

استهدفت "إسرائيل" الصحة النفسية للفلسطينيين منذ بداية الصراع العربي ـ الصهيوني، وتمثّلت أولى تلك المحاولات في سعي عصابات الاحتلال لإثارة الرعب في نفوس أصحاب الأرض، وكان المبتغى الأساسي من هذا السلوك هو صرف الأهالي عن المقاومة ودفعهم إلى هجر أراضيهم والنزوح عنها، بهدف تحقيق مصالح الاحتلال في السيطرة على كامل التراب الفلسطيني.

تطورت المساعي الإسرائيلية للتأثير في الصحة العقلية للفلسطينيين، وجرى ذلك عبر إشاعة مناخ عام من اليأس وانعدام الفرص، على نحو يؤثر سلباً في الأطفال والمراهقين بصورة خاصة، وتعمّدت "إسرائيل" دوماً إمّا تنفيذ الأعمال العسكرية ضد الشعب الفلسطيني، وإمّا التهديد بالقيام بها، حتى في المناطق التي يُفترض أنها لا تشهد مقاومة.

كان الهدف الإسرائيلي على الدوام "كسر القيمة" لدى الأجيال الفلسطينية الجديدة. فالعيش تحت تهديد دائم يُدمّر ثقة الفرد بذاته وبمن حوله. ومهما يُنجز في حياته فسيظل في داخله اهتزاز وشعور دفين بأن لا قيمة لديه، بسبب انعدام الإحساس بالأمان.

الغريب هنا أن الفلسطينيين استطاعوا دوماً قلب المخططات الإسرائيلية رأساً على عقب. ففي بدايات الصراع، اكتشفت المقاومة وَهن المقاتل الإسرائيلي عكس ما يُشاع عنه، وأنه يمكن التغلّب عليه، على رغم الدعم الغربي الهائل، ثم أدرك الفلسطينيون أن الصهيوني هو الطرف الأجدر بأن يشعر بانعدام الأمان، بسبب وجوده في أرض ليست أرضه و"بلادٍ" غريبة عليه.

تؤكد الأحداث منذ حرب عام 1948 حتى طوفان الأقصى أن "إسرائيل" هي مجتمع من المهاجرين الذين ليس لديهم إيمانٌ بالأرض، وأنهم مع أول اختبار إما يهرعون إلى المستشفيات النفسية، وإمّا إلى المطارات، وهذا ما تسبب بحدوث أزمة صحة نفسية غير مسبوقة داخل الكيان بعد يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023.

بحسب دراسة نُشرت في مجلة "ذي لانسيت" الطبية البريطانية بعد أربعة أشهر من عملية طوفان الأقصى، فإن كل الإسرائيليين تعرَّضوا، بطريقة أو بأخرى، لتداعيات هذا الهجوم غير المسبوق، من حيث النطاق وهول الصدمة النفسية. وأكدت الدراسة ارتفاع معدلات الإصابة بالاكتئاب والضيق داخل "إسرائيل"، وأن هناك إحساساً بالهزيمة الجماعية والخوف من المستقبل.

في الوقت نفسه، تؤكد الإحصاءات المعلنة من جانب "جيش" الاحتلال أن نحو 30 ألف جندي إسرائيلي اتصلوا بالخط الساخن للصحة العقلية منذ اندلاع الحرب في قطاع غزة، وأن نحو 85 في المئة من الجنود الذين طلبوا العلاج النفسي عادوا إلى القتال، في مقابل نحو 200 جندي تم تسريحهم من الخدمة بسبب المشاكل النفسية التي عانوها من جراء الحرب.

اعتياد الحرب وتجاوز الهزيمة

لم يدرك الاحتلال أنّ تكثيف عمليات العدوان على الفلسطينيين سيوصلهم إلى حالة ما من "اعتياد الحرب"، ثمّ التأقلم مع العيش في ظل القصف والهدم والنزوح، والسعي للتشبث بمُتع الحياة وكل صور البهجة، حتى في أحلك الظروف وأشدّها لاإنسانيةً.

لا يمكن لأحد التهوين من حجم الصعوبات التي يعانيها المرء في ظروف الحرب، لكن الجميع بات يدرك أن للتحرير ضريبة، وأن الألم الذي يشعر به الفلسطيني يقابله وجعٌ مضاعَف يشعر به الإسرائيلي، والفوز سيكون من نصيب الأكثر قدرة على الصبر والتجاوز والاستمرار.

ثمة سؤالٌ دار في الإعلام العربي قبل نحو شهر، وهو: كيف سيمر شهر رمضان ومن بعده عيد الفطر على أهالي غزة، المقصوفين من السماء والأرض، والمحاصَرين من الحدود الأربعة؟!

عبقرية الإجابة الفلسطينية أنها تجاوزت المأساة، وأزاحتها من طريقها، واحتفل أبناء العوائل الغزّيّة بأجواء الشهر الكريم، وتابعوا الممكن من البرامج والمسلسلات عبر الشاشات، وتزيّنوا بالمتاح من الملابس الجديدة في صباح العيد.

تلك العبقرية الفلسطينية، التي تمنع الفرد من الانغماس في أوحال الاكتئاب والانزواء والفشل، هي أشدّ ما يغيظ حكومة الاحتلال اليوم. فالإسرائيلي يريد للفلسطيني أن ينتحب في الزاوية، وأن تفوته الحياة بكل تفاصيلها. وبالتالي، فإن إرادة العيش والمتابعة في النشاطات اليومية، بما فيها من بهجة وضجيج وعُنفوان، هي جزء من المقاومة، بل هي أجلّ فصولها، وخصوصاً في تلك المرحلة.

لا شك في أن الفلسطيني صار يعتمد، في رؤيته بشأن الحرب الدائرة اليوم، على أربعة معايير:

الأول أن الحرب ستنتهي، حتى إن طالت وتراكمت فيها التضحيات، وأن الحياة لا بد من أن تستمر، ولا مفرّ من المتابعة والتجهيز للمستقبل.

الثاني أن الهزيمة النفسية هي الهدف الرئيس للعدوان. وبالتالي، فإن الجسارة في مواجهة الصعوبات، والتغلّب على اليأس، هما الضامن الحقيقي للانتصار.

الثالث أن الشهداء، الذين قدّموا أرواحهم فداءً للقضية، لم يفعلوا ذلك بسبب ميولٍ انتحارية أو لأنهم سئموا الحياة، بل ضحّوا بأرواحهم كي يهبوا غيرَهم حياةً أفضل في هذه الأرض بعد تطهيرها من دنس الاحتلال. وبالتالي، فإن الوفاء لأرواح الشهداء يُحتّم على الجميع التشبّث بالحياة.

الرابع أن الصهيوني كلما أفرط في عدوانه وهمجيته، فإن ذلك يكون دليلاً على أزماته الداخلية، أو برهاناً على شموخ عمليات المقاومة، التي يسعى للرد عليها.

المعاناة الفلسطينية وترياق المقاومة

عانى الفلسطينيون، فترات طويلة، أزمات نفسيةً حادة بسبب تاريخ الصراع مع العدو الإسرائيلي، إذ تؤكد دراسة أجراها البنك الدولي، في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، أن أكثر من 50 % من السكان الفلسطينيين ثبتت إصابتهم بالاكتئاب، بما في ذلك 71% من الفلسطينيين داخل قطاع غزة، ونحو 60% في الضفة الغربية.

وأظهر عدد أقل دلائل على حدوث اضطراب ما بعد الصدمة، وهو مرض نفسي يتطور بعد تعرض المرء لأحداث مؤلمة. وكانت دراسات سابقة، أُجريت قبل بعامين، أكدت أن ما يقارب 54% من المراهقين في قطاع غزة تنطبق عليهم معايير تشخيص هذا الاضطراب، بسبب أحداث متنوعة، مثل مصادرة الأراضي، والاحتجاز، وهدم المنازل، وفقدان الأحباء، والخوف من الموت.

في الوقت ذاته، لا يجب إغفال أنه في الشهر الأول للعدوان الصهيوني الأخير على غزة، قامت الطائرات الحربية الإسرائيلية باستهداف مستشفى الطب النفسي الوحيد في القطاع، وهو مستشفى حكومي متخصص بتقديم خدمة الطب النفسي، وكان يقع في حي النصر، في شارع العيون.

اللافت هنا أن علاج مثل تلك الاضطرابات النفسية، والتي تظهر كعرض جانبي لدى أي شعب يعاني القهر والاحتلال، لا يكون عبر تناول العقاقير الطبية المعتادة، أو دخول المصحّات العقليّة، بل عبر تحقيق نوع من الانتصار الجمعي، الذي يقضي على الشعور بالهزيمة، ويمحو مرارة الفقد، ويقلل الإحساس بالقلق.

فما دامت المعاناة، عبر كل أشكالها (مادية ونفسية)، هي نتاج أسباب متعلقة بالاحتلال وممارساته، فإن التصدي للاحتلال والقضاء عليه، أو على الأقل ردعه، هو الدواء الملائم لهذا النوع من العِلّات، وأي مساعٍ لصرف الناس عن هذا الترياق تستهدف التشويش عليهم ومنعهم من التجاوز والشفاء.

يقول ستيف سوغدين (دكتوراه في الطب)، وهو عقيد في احتياط الجيش الأميركي، أن من المثير للعجب أن المدنيين في النزاعات هم المجموعة التي تعاني قدراً أقل من الصدمات النفسية، إذا تمت مقارنتهم بالجنود، نتيجة لقدرتهم على التحدث مباشرة إلى شبكاتهم الاجتماعية ومعالجة مشاعرهم.

المهم في تحليل سوغدين هو التركيز على مسألة الترابط الاجتماعي، وقدرتها على تحسين مزاج المرء النفسي، ومنحه القدرة على تجاوز الأزمات عبر مشاركتها مع الآخرين، وهذا بدوره يكشف عبقرية الفلسطينيين في أثناء الحروب، واندفاعهم على الدوام نحو التكتل في مجموعات بشرية مترابطة، الأمر الذي يساعد على بناء القدرة على الصمود.

من يفقد الأمل.. يخسر وجوده

يتمحور الصراع العربي الإسرائيلي على الأرض، والسؤال يظل دائماً هو: من سيتخلى عن أمله في تحقيق النصر النهائي أولاً؟، ومن سيفقد صبره: أصحاب الأرض من الفلسطينيين، أم الوافدون إليها من كل بقاع العالم؟

سعت "إسرائيل"، على مدار عقود، لترسيخ اعتقاد كاذب لدى الشعب العربي، مفاده أنها "وُجدت لتبقى"، وأن لا مفر من قبولها وتطبيع العلاقات معها، لكن المقاومة، عبر مختلف ساحاتها، أثبتت زيف هذا الادعاء، وفضحت حجم الضعف الذي يعتري المجتمع الإسرائيلي، وحرّضت شعوب المنطقة على إعلان موقفها الرافض أي صورة من صور التعاون أو التقارب مع الاحتلال.

مع كل عدوان صهيوني جديد تظهر الأصوات التي تحاول إشاعة حالة من اليأس، ويكون ذلك عبر التركيز على "المأساة الإنسانية للفلسطينيين". في حقيقة الأمر، لا يريد هؤلاء بث روح التعاطف مع الفلسطينيين أو إدانة الجرائم الإسرائيلية، بل هدم الروح المعنوية لعموم العرب، وإيهامهم بأنهم في مواجهة عدو لا يمكن قهره، وأن ضريبة المقاومة لا يمكن تحمّلها!

هذه الأفكار، التي تدعو الجمهور العربي إلى الكآبة والشعور بالعجز، لا تخدم القضية الفلسطينية، بل تخدم أعداءها، الذين ينتابهم السرور وهم يرون الأنصار المفترضين للفلسطينيين يعانون الانطفاء والهزيمة، وثمّ ينسحبون من دائرة الفعل إلى دوائر قلة الحيلة وفقدان الاهتمام.

من المهم الوعي بأن فلسطين قضية نضال يستهدف في الختام تحقيق حياة أفضل للشعب العربي الفلسطيني وكل شعوب المنطقة، التي تعاني تبعات الهيمنة الاستعمارية الغربية، التي هي بدورها راعية للاحتلال الإسرائيلي. وبالتالي، فإن التشبث بالأمل والمضي قدماً في الحياة هما من أهم صور المقاومة، وهذا بمنزلة الدرس الأهم، الذي قدّمه أهالي غزة للعالم أجمع، طوال الشهور الماضية.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.