"الفيتو المزدوج" وخارطة طرق "السداسية العربية"

لا ضير في أن ينخرط العرب الرسميون في مسارات التفاوض والسياسة والدبلوماسية، ولا سيما إن كان هذا الحراك سيستعجل وقف المذبحة في غزة، لكن الطامة الكبرى ستقع إن أغفلوا دروس تجربة ثلث قرن من التفاوض مع "إسرائيل".

  • إدارة بايدن ستواصل مسعاها الحثيث لاستكمال مسارات التطبيع.
    إدارة بايدن ستواصل مسعاها الحثيث لاستكمال مسارات التطبيع.

يطوف وزراء خارجية عرب عواصم الغرب حاملين معهم "خريطة طرق"، سعت من خلالها "السداسية العربية" إلى تقديم جواب عن سؤال "اليوم التالي" للحرب الإسرائيلية على غزة، قبل أن تتحول في "قمة المنامة" إلى "بلاتفورم" عربي مشترك...

الوزراء سبق لهم أن عرضوا بضاعتهم على نظيرهم الأميركي أنتوني بلينكن من دون حماسة من طرفه. وفي بروكسيل وباريس، تم عرضها على الدول الأركان في الاتحاد الأوروبي، وما زال الحراك مستمراً.

السداسية التي تضم معظم حلفاء واشنطن العرب، وغالبية دولها الأعضاء تحتفظ بمعاهدات سلام واتفاقات تطبيع مع "إسرائيل"، رمت من وراء سعيها إلى تقديم ما اعتبرته "خريطة طرق" لسلام مستدام في المنطقة، وملء فراغ دبلوماسي ناجم عن غياب رؤية أميركية وموقف إسرائيلي واضحين لسيناريو "اليوم التالي" للحرب... ولضمان قبول الحليفتين الاستراتيجيتين، واشنطن و "تل أبيب"، بهذه المبادرة، جرى التراجع بمسافة ملحوظة عن مبادرة قمة بيروت للسلام عام 2002، فما العناوين التي تخلت عنها المبادرة الجديدة؟ وكيف جاء موقف واشنطن منها؟ ولماذا لم تُعِرها "تل أبيب" أي اهتمام؟

قبل 22 سنة، تقدمت الدول العربية بعرضها لسلام شامل مع "إسرائيل" ينهي احتلالها الذي بدأ في العام 1967 للأراضي الفلسطينية والعربية نظير تطبيع عربي شامل مع "الدولة" العبرية.

وحين اصطدم القادة المجتمعون بموقف لبناني يصر على تضمين المبادرة بنداً حول اللاجئين الفلسطينيين الذين تعدهم بيروت واحداً من أهم تحدياتها الأمنية والديموغرافية، جرت إضافة بند جديد إلى الصيغة الأولى للمبادرة تحدث عن حل عادل و"متفق عليه" لقضية اللاجئين الفلسطينيين، مبقياً بطريقة مراوغة حق النقض "الفيتو" على عودة اللاجئين بين يدي "إسرائيل".

اليوم، لم تعد هذه "الجمل الشَرطية" حاضرة في قاموس السياسة العربية الراهنة، فالتطبيع الإبراهيمي بين "إسرائيل" وعدد من الدول العربية حدث من دون قيد أو شرط قبل عدة سنوات، وقطاره كان سائراً نحو محطة نوعية جديدة: الرياض، قبل السابع من أكتوبر، وهو تباطأ بفعل "الطوفان"، بيد أنه لم يخرج عن سكته، بانتظار أن تجنح "إسرائيل" للقبول بفتح "أفق ذي مغزى" أو ترتضي شق "مسار لا رجعة عنه" يفضي ذات يوم إلى "حل الدولتين".

المبادرة العربية الجديدة لحظت عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة بعد إصلاحها وترشيقها... وتحت مظلتها، أبدى العرب مرونة في الإسهام النشط في تمكينها من إحكام قبضتها على القطاع المنكوب، توطئة لولوج مسارات الإغاثة والإيواء والتعافي المبكر، وصولاً إلى إعادة الإعمار. وكان من الطبيعي أن تغفل المبادرة عن ذكر حماس وفصائل المقاومة، باعتبار أن اليوم التالي يبدأ بعد وضع الشاهد على قبرها أو هكذا تشتهي بعد عواصم العرب على أقل تقدير.

من حيث المضمون، لا تختلف المبادرة / خريطة الطريق العربية عن مواقف واشنطن، المعلنة على أقل تقدير، فإدارة بايدن تتحدث صباحاً مساء عن "حل الدولتين"، وترى أن قيام دولة فلسطينية "من طراز ما" يجب أن يحدث ذات يوم، وهي تنافح عن عودة السلطة إلى قطاع غزة بعد إصلاحها وتخفيفها من فسادها وترهلها، ولا تتبنى فكرة فصل القطاع عن الضفة الغربية، باعتبارهما إقليماً واحداً للدولة الفلسطينية العتيدة التي لم تقل واشنطن شيئاً ذا مغزى حتى الآن عن حدودها وعاصمتها و"مقدار سيادتها" وكيف يمكنها أن تعيش بسلام جنباً إلى جنب مع "إسرائيل".

لكن ذلك لم يمنع واشنطن من إشهار "الفيتو" في وجه مبادرة صدرت عن ستة من أكبر وأهم حلفائها العرب، فالإدارة التي اعتادت أن تقول شيئاً وتفعل نقيضه لديها سلم أولويات مختلف عن هؤلاء، تبدأ خطوته الأولى بتطبيع سعودي – إسرائيلي لطالما اعتبرته "درة تاج" مسعاها لبناء منظومة إقليمية جديدة وإدماج "إسرائيل" في المنطقة... وبايدن شخصياً نظر إلى المسألة بوصفها إنجازه الأبرز في السياسة الخارجية حال تحققها، وكرّس له الكثير من الوقت والجهد، حتى بات "على مرمى حجر"، قبل أن يحلّ "الطوفان" ويقلب المشهد رأساً على عقب، كما قال شخصياً، وكما ردد من بعده نفرٌ من أركان إدارته.

إدارة بايدن تستعجل إنجاز الحلقة السعودية في مسلسل التطبيع العربي – الإسرائيلي، وهذا لا شكّ فيه، ولكنها لن تعتمد سياسة "تدفيع الثمن" مع "إسرائيل"، ولا سيما أنها في المقابل تبدو متحررة من أي ضغوط عربية لغذّ السير على طريق وقف الحرب وفتح الأفق السياسي، فالمواقف العربية لم تخرج عن إطار الدعوات والمناشدات وإبداء القلق والتعبير عن الإدانة من دون أن ترتبط بإجراء عملي واحد ذي مغزى، ولا رجعة عنه، لا بحق واشنطن ولا في مواجهة "تل أبيب"، فلماذا تقلق العاصمتان الحليفتان؟ ولماذا يتعين عليهما "استعجال الشيء قبل أوانه"؟ ثم إن واشنطن لديها "مانع" آخر حال وسيحول دون إتمام التلاقي والتماهي مع مواقف وتوجهات الحلفاء العرب، ويتعلق بمدى جاهزية "الحليفة الأولى بالرعاية": إسرائيل،  للسير في الاتجاه نفسه، وبالسرعة نفسها...

"تل أبيب" لا تريد دولة فلسطينية، وثمة إجماع إسرائيلي على ذلك... والتيار المتنفذ في مؤسسات القرار فيها لا يريد عودة السلطة إلى القطاع، مع إن هناك فريقاً آخر ينافح عن دور محتمل لأجهزة السلطة الأمنية من دون التفريط بـ"حق إسرائيل" في اقتحام أي بقعة منه، وقتما شاءت، في إعادة لسيناريو تعاملها مع الضفة الغربية... والتيار المركزي في "إسرائيل" يبحث عن سيطرة أمنية مستدامة على القطاع، أقله لعشر سنوات قادمة، تتولى خلالها "حكومة فيشي" فلسطينية الشطر المدني من وظائف الاحتلال.

وعلى الرغم من أن نتنياهو شخصياً لطالما "حلم" بتطبيع مع الرياض نادى به وبشّر بقرب حدوثه مراراً وتكراراً، فإنَّ أولويات الرجل تغيرت كثيراً بعد زلزال أكتوبر، فلم يعد التطبيع مع دول عربية جديدة، وإن كانت بحجم السعودية، يتقدم عنده على أولوية تحقيق "النصر المطلق" في الحرب، كما أن مصيره السياسي والشخصي لم يعد مرتبطاً بسجل إنجازاته "الإبراهيمية" بقدر ما بات متعلقاً بمجريات الحرب على غزة وأهلها ومقاومتها، ومهما كلف الثمن.

على أي حال، لم تنتهِ المسألة عند هذا الحد، فلا المجموعة العربية السداسية بوارد التخلي عن مبادرتها، حتى بعد أن تبين أنها "ولدت ميتة"، ولا واشنطن يئست من فرص استئناف رحلات قطار التطبيع وتنقلاته بين العواصم العربية والإسلامية، فيما حالة التخبط والارتباك ما زالت تتحكم في المشهد الإسرائيلي الداخلي كما لم يحدث من قبل في أي مرحلة من تاريخ هذا الكيان.

أغلب الظن أن إدارة بايدن ستواصل مسعاها الحثيث لاستكمال مسارات التطبيع، وستعمل على قبض الثمن من الأطراف العربية والفلسطينية سلفاً ومقدماً: رأس المقاومة الفلسطينية وتطبيع سعودي – إسرائيلي، على أمل أن يبعث ذلك قدراً من الطمأنينة في تل أبيب، ويدفعها إلى الإقرار، ولو لفظياً، بأهمية بوجود هذا "المسار الذي لا رجعة عنه"، ما دامت الخبرة الأميركية المتراكمة في التعامل مع "إسرائيل" تؤكد أنه ليس هناك مسار لا رجعة عنه، وليست هناك مواعيد مقدسة من أي نوع. ولعل نتنياهو شخصياً، ومنذ حكومته الأولى في تسعينيات القرن الفائت، هو أول من عمل على نزع "القداسة" عن المواعيد كافة أو الاستحقاقات.

لا ضير في أن ينخرط العرب الرسميون، وبنشاط، في مسارات التفاوض والسياسة والدبلوماسية، ولا سيما إن كان هذا الحراك سيستعجل وقف المذبحة في غزة، لكن الطامة الكبرى ستقع إن أغفلوا دروس تجربة ثلث قرن من التفاوض مع "إسرائيل"، وأهمها على الإطلاق الامتناع عن دفع الأثمان مقدماً ومسبقاً، وتفادي شراء السمك الإسرائيلي والأميركي الذي ما زال في البحر، إذ ربما يصدف أن يكون هذا البحر ميتاً، فنخرج ويخرجون من المولد بلا حمص.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.