غزة بين شارعين... لماذا صمتنا حين نطقت شوارع الغرب وجامعاته؟

"انتفاضة" الجامعات الغربية، بدءاً بالأميركية، إيذاناً بانقلاب المشهد، وتطوراً نوعياً ملموساً، لن تمحى آثاره لأعوام متعددة مقبلة، وسيكون لها الأثر في إعادة تشكيل النخب والسياسات في عواصم الغرب.

  • ما زالت المجتمعات العربية تعيش تداعيات الصدمة والخيبة التي أعقبت عشرية
    ما زالت المجتمعات العربية تعيش تداعيات الصدمة والخيبة التي أعقبت عشرية "الربيع العربي".

تكشّفت حرب التطهير والإبادة، التي تشنها "إسرائيل" على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة للشهر الثامن على التوالي، عن مفارقتين صادمتين، واحدة بالمعنى الإيجابي العميق للكلمة، والثانية بالمعنى السلبي، العميق أيضاً.

المفارقة الأولى انتصار "الشوارع" والجامعات الغربية للحق والعدالة والإنسانية المذبوحة في القطاع الصامد، الصابر والمقاوم. والثانية خذلان "الشوارع" والجامعات العربية (إلا من رحم ربي) لعشرات آلاف الضحايا الأبرياء، من نساء وأطفال وشيوخ، في القطاع. وأحسب أنه سيكون للمفارقتين معاً، تداعيات من طبيعة استراتيجية، طويلة الأجل، ستتظهّر في مرحلة ما بعد الحرب.

في الحالة الأولى، تبدّى لنا أن ثمة "مجتمعات عميقة" في الغرب، في مقابل "دوله العميقة" التي أعلنت أغلبيتها انحيازاً لاأخلاقياً، وفي بعض الحالات، شراكة حقيقية فعّالة في سفك الدم الفلسطيني.

خرجت الجماهير الغاضبة في لندن وباريس وبرلين وغيرها من مئات المدن الأوروبية والأميركية إلى الشوارع، تعبيراً عن الإدانة والغضب بسبب جرائم الإبادة التطهير، وانتصاراً للعدالة من أجل فلسطين.

وكانت "انتفاضة" الجامعات الغربية، بدءاً بالأميركية، إيذاناً بانقلاب المشهد، وتطوراً نوعياً ملموساً، لن تمحى آثاره لأعوام متعددة مقبلة، وسيكون لها الأثر في إعادة تشكيل النخب والسياسات في عواصم الغرب، أقله، لإدخال قدر من الاتزان والتوازن في مواقفها وسياساتها وسلوكها حيال "حرب الأعوام المئة" بين الفلسطينيين والصهاينة.

لم تكن رحلة هذه "الشوارع" والجامعات بالأمر اليسير على ناشطيها ومحركيها والفعّالين فيها، فثمة "مكارثية" جارفة في الغرب، تتخذ شعار "محاربة العداء للسامية" لبوساً لها، ولاسيما بعد أن جرى التوسع في تعريف "العداء للسامية"، على نحو يتماهى مع تعريف "التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست - IHRA"، والذي استحدث التطابق بين تقريع اليهود وتجريم السياسات والجرائم الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، بل عدّت حركات التضامن مع شعب فلسطين ضرباً من ضروب العداء للسامية، وسعى لـ"شيطنة" تقارير منظمات ومؤسسات دولية، مثل "هيومن رايتس واتش" و"أمنستي إنترناشنال" والمحاكم الدولية، وصولاً إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، بصفتها منظمات متورطة في جرم "العداء للسامية". ولعل السلوك المتغطرس للمندوب الإسرائيلي في الأمم المتحدة أوضح مثال على ما نرمي إليه.

كثرة كاثرة من هؤلاء الناشطين والفاعلين والمفكرين والفنانين واجهت تعنتاً شديداً من جراء حملات الطعن والتشكيك والاتهام و"الشيطنة"، وتعرضت للعزلة والعزل من وظائفها، وواجهت المضايقات والتهديدات. ومنها من فقد عمله أو فُصِل من جامعته، أو بقي عاطلاً من العمل بعد تخرجه، لا لشيء إلا لأنه حكّم ضميره، وتصرف بوحي من منظومته، قيمياً وأخلاقياً.

ومع ذلك، لم يستطع سيف "العداء للسامية"، المُصْلَت على الرقاب، أن يوقف طوفان التضامن مع فلسطين، قضية وشعباً وحقوقاً، أو أن يردع حملات الإدانة لـ"إسرائيل" ككيان يحتل شعباً آخر، ويفرض عليه نظاماً للفصل العنصري – آبارتهايد – ويمارس جرائم التطهير العرقي والإبادة الجماعية.

أظهرت هذه المجتمعات، التي تشكلت وفقاً لقواعد قيمية وحقوقية، صلابة في وجه محاولات الانحراف عنها، والتضحية بها على مذبح الدعم المطلق لجرائم الاحتلال. وكما نهضت هذه المجتمعات بالأمس، في مواجهة الحروب الأميركية الجائرة على فيتنام وجنوبي شرقي آسيا، فإنها تنهض، اليوم، في مواجهة جرائم الحرب التي تمارسها "إسرائيل"، بدعم وشراكة من واشنطن وبعض عواصم الغرب.

وثبت بالملموس أن "الهوامش" المتاحة لحرية الرأي والتعبير أقوى كثيراً من محاولات الطمس وتكميم الأفواه، والتي بلغت حداً تاريخياً غير مسبوق، في تعامل معظم حكومات الغرب مع "شوارعها".

في الضفة الأخرى، العربية، لم نر شيئاً مماثلاً، فالشوارع العربية – إذا ما استثنينا اليمن – ظلت هادئة نسبياً، والتظاهرات التي تواصلت في عدد من المدن العربية، طوال أشهر الحرب الثمانية، لم تبلغ الضفاف المرجوّة، ولم تنجح في تغيير مواقف حكومات عربية أو تعديلها. وجاء التحاق جامعاتنا بانتفاضة الجامعات الغربية متردداً وخجولاً، ومن باب رفع العتب، والنتيجة أن الحكومات العربية لم تستشعر سوى قليل من القلق حيال "غضبة الشارع"، وفي دول عربية ثرية، لم يكن هناك قلق من أي نوع، ولم تكون هناك "شوارع" في الأساس.

تُحيلنا هذه المفارقات المؤلمة على مغامرة السعي لتفسير ظاهرة عزوف "الشوارع" والجامعات العربية عن المشاركة الفعّالة والنشطة في حملات التضامن مع شعب فلسطين، وعلى إجراء بعض المقارنات والمقايسات مع "الشوارع" والجامعات الغربية:

أولاً، الديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان مفاهيم طارئة على معظم دولنا ومجتمعاتنا العربية، مع تفاوت ملحوظ بين دولة وأخرى بالطبع. "الدولة العميقة" في مقابل "المجتمعات الهشّة" الغارقة في "صراعات هوياتية" والمبعثرة على خطوط الطوائف والأديان والأقوام والإثنيات والقبائل، هي المعادلة المتحكمة في الديناميات الداخلية لمعظم بلداننا إن لم نقل جميعها.

بخلاف الحال في الغرب، حيث الدولة العميقة يقابلها مجتمع عميق، متمرس في ممارسة الحق في التنظيم وحرية التعبير، ويعرف، تمام المعرفة، كيف تدار العلاقة بالسلطة وفقاً لقواعد "حكم القانون"، وليس وفقاً لقاعدة "الحكم بالقانون" السائدة في دولنا ومجتمعاتنا.

والفارق بيّن بين الحالين، فحكم القانون يعني سيادته، وصدوره عن مؤسسات تشريعية ممثلة ومنتخبة، وهو ذو طبيعة "عمومية" لا تستثني أحداً، ولا أحد فوقها. أما الحكم بالقانون، فليس سوى محاولة لتسخير القانون و"تذخيره" لخدمة الهيمنة والاستبداد ومصادرة حقوق البلاد والعباد.

ثانياً، ما زالت المجتمعات العربية تعيش تداعيات الصدمة والخيبة التي أعقبت عشرية "الربيع العربي"، وما ترتب عليها من تكاليف باهظة في الأرواح والمعيش وشروط العيش الكريم للمواطن العربي، وما زالت بلداننا تدفع فاتورة الخراب الناجم عن "الثورات المضادة" التي اشتعلت في غير دولة، بقيادة ودعم وتوجيه "هيئة أركان" إقليمية، لأنظمة وحكومات، هالها أن ترى الشوارع العربية قادرة على إطاحة أباطرة السياسة والعسكر والمال في عدد من الدول العربية، بين عشية وضحاها. انعدام اليقين، وتأكّل جدران الثقة، والخوف من المجهول، دفعت كثيراً من المجتمعات العربية إلى توخي الحذر واختيار "السلامة"، مع أنها موضوعياً تدافع عن حقوقها ومستقبلها البديل، إذ تنتصر لفلسطين وتتضامن مع شعبها. فالمعركة التي يخوضها الفلسطينيون ضد عدوهم، هي ذاتها المعركة التي يتعين على الشعوب العربية خوضها لضمان مستقبل مغاير لأجيالها المقبلة.

فالتطبيع، في جوهره، هو حلف الصهيونية العنصرية مع أنظمة الفساد والاستبداد، المدعومة بالرعاية الأميركية الغربية عموماً. هي المعركة ذاتها، وإن تعددت أدواتها وأساليبها وشعاراتها وساحاتها. هي معركة الاستقلال الأول لفلسطين، والاستقلال الثاني لمعظم الدول العربية

ثالثاً، ثمة اختلال في تركيبة القوى والحركات الناشطة من سياسية وفكرية في العالم العربي، ستتكشف تداعياته بفعل طوفان الأقصى. فاليسار والقوميون ما عادوا اليوم، بل منذ أعوام طوال، في صدارة المشهد، وناشطو اليسار، بصورة خاصة، معظمهم، حتى لا نظلم بعضهم، تحول من خنادق الصراع ضد الإمبريالية والصهيونية إلى فنادق "النشاط المدني".

وعلى إيقاع الخشية من صعود "الإسلام السياسي"، انقسم اليساريون إلى فريقين، واحد تابع للدولة العميقة، بمؤسساتها وجنرالاتها، والثاني ملتحق من موقع غير ندّي بالحركات الإسلامية.

أما من بقي على نهجه، ففاته إجراء المراجعات المطلوبة بعد تجربة "الانهيار الكبير" للاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي. أما التيار المدني – الديمقراطي، الذي راوح بين ليبرالية مرذولة وديمقراطية – اجتماعية ناشئة، لا تعرف ما تريد، ولم ترسم بعدُ ملامح تميّزها، فتلقى ضربة قاسية نتيجة الحرب البربرية على غزة، وانفضاح دور الغرب الاستعماري، وسقوط منظومتيه القيمية والأخلاقية، اللتين استمدّ منهما هذا التيار بعضاً من مرجعياته، فكان التيار الثاني الذي سيترنح بسقوط مرجعياته في العشريات الثلاث الأخيرة، بعد أن سبقه إلى ذلك التيار اليساري والشيوعي العربي.

وأحسب أن انخفاض منسوب النزعة الكفاحية لهذه التيارات، سواء في مواجهة العدو الخارجي الصهيوني – الاستعماري، أو في مواجهة "خصوم الداخل" من أنظمة مستبدة وديكتاتورية، بدد صدقيته، وأضعف قدرته، وولّد فراغاً ستملأه حركات الإسلام السياسي والمقاوم.

رابعاً، ظهر ملموساً أن ظاهرة انتفاخ المجتمع المدني العربي، بعشرات ألوف المؤسسات والجمعيات، لم تكن ولادة طبيعية، منسجمة مع حاجات مجتمعاتنا وأولوياتها الوطنية، بل ترتبت عن "سخاء" الغرب في تقديم التمويل والدعم المطلوبين، ولاسيما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001.

لقد نجحت هذه المؤسسات في اجتذاب ملايين الناشطين الشبان العرب، بيد أنها ساهمت في "تفتيت" الأجندة الوطنية لدولنا وشعوبنا، وأدخلت قطاعات شبابية في نزاعات وجدالات، لم يكن الهدف منها، عن قصد أو من دونه، سوى صرف انتباههم عن القضايا الوطنية الأساسية المتعلقة بالصراع القومي مع العدو، أو باستكمال إنجاز الاستقلال الثاني لدولهم وشعوبهم.

وانخرطت أغلبية هذه المؤسسات في عملية "تكيف" مستمرة، مع أولويات مجتمع المانحين لضمان استمرار الدعم والتمويل. وعندما وجدت شعوب بلداننا نفسها في مواجهة مع القائمين على "مجتمع المانحين"، لم يكن أمام هذه المنظمات سوى واحد من طريقين: أما الانضمام إلى حركة شعوبها والمخاطرة بفقدان مصادر التمويل، وإما البقاء في إحضان الداعمين، وتفضيل الهجرة واللجوء على أوطانها، ومزاولة نشاطاتها من المنافي، كما حدث في عدة دول، كاليمن والسودان وسوريا وغيرها.

لم نلاحظ دوراً فعالاً لهذه المنظمات في حراك "الشوارع" والجامعات العربية، بل إن بعضها لاذ بصمت القبول حيال المذابح، الأمر الذي يرتب إعادة نظر جذرية في أساليب العمل والأطر الناظمة والمرجعيات الفكرية والأخلاقية لهذه المؤسسات، فلا يعقل أن تكون مناهضة للعدوان على غزة، وأن تواصل شراكاتك مع منظمات ثبت تورط عدد منها في تأييد المذبحة وتبريرها.

خامساً، بعد أعوام على سياسات تجريف الجامعات العربية وتجويفها، وبعد عقود من نهج "الأمننة" التي خضعت له، فقدت الجامعات العربية وظيفتها كمصادر انتاج و"تفريخ" للنخب السياسية العربية، صمتت وسكنت حين تحركت جامعات الغرب وانتفضت ضد حروب التطويق والإبادة التي يتعرض لها الفلسطينيون.

وإلى جانب التأكّل في مكانتيها العملية والبحثية، تأكَّلَ دورها كروافع تجرّ خلفها الحراك الشعبي وانتفاضات الاحتجاج. ولم يكن الصمت المخيم على الجامعات في العالم العربي سوى "بعضٍ من كل" ما تعانيه مجتمعاتنا من مظاهر القهر والتهميش والإقصاء.

لكل هذه الأسباب وكثير غيرها، تقدمت "الشوارع" والجامعات الغربية، وتخلفنا نحن. ولولا تطابقٌ بين المواقف الرسمية والشعبية في عدد محدود من الدول العربية، ولولا بقايا هوامش لحرية الرأي والتعبير والتنظيم في بعضها الآخر، لكان "الموات" عنواناً للموقف الشعبي العربي، بصورة ترادف الموات والعجز المتواطئين، واللذين ميّزا مواقف عدد من "الرسميات" العربية.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.