حصاد التطبيع الرسمي مصرياً

التطبيعُ الاقتصادي بالذات هدفُه النهائي هو الإمساك بالهيكل العظمي للاقتصاد العربي، والتفشّي في دورته الدموية.

  • تُعَدّ صفقة الغاز المصرية - الإسرائيلية أهم صفقة تطبيعية بين مصر والكيان الصهيوني منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد، كمياً ونوعياً.
    تُعَدّ صفقة الغاز المصرية - الإسرائيلية أهم صفقة تطبيعية بين مصر والكيان الصهيوني منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد، كمياً ونوعياً.

"لا ينجح التطبيع إن لم تضمن "إسرائيل" روافع تمكّنها من قطع الكهرباء والماء والحياة الاقتصادية عن الدول المطبِّعة، إن هي قررت تغيير رأيها. فلا أمان للكيان الصهيوني مع رأي شعبي عربي يمكن أن يمارس ضغوطاً تدفع في اتجاه وقف التطبيع". كان هذا هو استنتاج مادة "التطبيع الرسمي فلسطينياً وأردنياً" الأسبوع الفائت (الميادين نت، في 17/5/2022)، بعد عرض بعض الاختراقات التطبيعية العميقة، سياسياً واقتصادياً، في الأردن وفلسطين. 

أمّا مصرياً، فيمكن القول إن الاختراق التطبيعي اقتصادياً، بالنسبة إلى حجم الاقتصاد المصري أو بنيته، ظل أكثر محدوديةً وأقل تفشياً من تفشيه في جنوبي بلاد الشام، حتى عام 2020، كما سيأتي. وإذا وضعنا الغاز جانباً، فإن التجارة بين مصر و"إسرائيل" بلغت 200 مليون دولار فحسب عام 2020، ووصلت إلى "رقمٍ قياسي" هو 330 مليون دولار عام 2021، بعد 42 عاماً من معاهدة السلام. قارن ذلك، على سبيل المثال، بحجم التبادل التجاري بين تركيا والكيان الصهيوني، والذي بلغ 4.67 مليارات دولار عام 2020، و6.36 مليارات دولار عام 2021. 

كل تطبيع مدان طبعاً، زاد أم قلّ، لأنه، أولاً، عظيم الفائدة لكيان الاحتلال في الحالتين، سواءٌ اقتصادياً أو سياسياً أو ثقافياً، ولأن التطبيع الصغير، ثانياً، هو موطئ قدم للتطبيع الكبير. ولهذا، نتحدث عن "اختراقٍ تطبيعيّ"، لا عن تطبيعٍ فحسب. فالتطبيعُ الاقتصادي بالذات هدفُه النهائي هو الإمساك بالهيكل العظمي للاقتصاد العربي، والتفشي في دورته الدموية. لذلك، فإن خطورة التطبيع اقتصادياً، في مصر (والأردن)، تتجاوز مؤشر حجم التبادل التجاري مع العدو الصهيوني إلى الصفقات النوعية التي تتيح للكيان التغلغل في بنية الاقتصاد، مثل صفقات الغاز، مع العلم بأن التبادل التجاري بين الأردن والكيان الصهيوني بلغ 275 مليون دولار عام 2020، و450 مليون دولار عام 2021. وهو أكبر، في القيمة المطلقة، وأكثر أهمية، بالنسبة إلى حجم الاقتصاد الأردني، من أهميته بالنسبة إلى حجم الاقتصاد المصري. لكنْ، مرةً أخرى، يبقى الأهم من ذلك هو تحويل الأردن إلى معبر بري إلى العراق ودول الخليج عموماً، كما جاء في مادة سابقة.

صفقة الغاز بين الكيان الصهيوني ومصر: أكبر اختراق تطبيعي منذ كامب ديفيد 

في شباط/فبراير من عام 2018، حقّقت "إسرائيل" اختراقاً تطبيعياً نوعياً في البنية التحتية المصرية، عندما وقَعت اتفاقاً بقيمة 15 مليار دولار مع شركة "دولفينوس" المصرية لتصدير الغاز الفلسطيني المسروق إلى مصر من حقل "ليفاياثَن" (124 كم غربي حيفا)، وحقل "تامار" الأصغر حجماً (80 كم غربي حيفا، والذي أغلِق خوفاً من صواريخ المقاومة خلال معركة "سيف القدس" في أيار/مايو 2021). ويعدّ الكيان الصهيوني حقول الغاز نقطةَ ضعفٍ دفاعية له. لهذا، أجرت البحرية الصهيونية مناورة عسكرية كاملة، الأسبوع الفائت، تحاكي هجوماً عليها بالسفن من جانب محور المقاومة. 

في بداية عام 2020، بدأ الضخ الفعلي من حقلي "ليفاياثَن" و"تامار" إلى مصر، وارتفعت قيمة الصفقة الغازية إلى نحو 20 مليار دولار؛ 19.5 مليار دولار تحديداً. وتبيّن أن جزءاً من ذلك الغاز سيذهب إلى السوق الداخلية المصرية، على عكس ما أُشيع سابقاً عن أنه موجَّه إلى التصدير إلى أوروبا فحسب بعد تسييله في مصر، مع العلم بأن مصر وصلت إلى الاكتفاء الذاتي من الغاز وأصبحت مصدّرِاً صافياً له منذ عام 2019، كما أن لديها أكبر حقل غازي شرقي البحر المتوسط، حقل "زُهر"، الذي يحوي احتياطيات تقدَّر بـ30 ترليون متر مكعب من الغاز، وهو حقل تملك امتيازه شركة "إيني" الإيطالية، التي تدير عمليات تشبيك الغاز الإسرائيلي والقبرصي والمصري بأوروبا.

تُعَدّ صفقة الغاز المصرية - الإسرائيلية أهم صفقة تطبيعية بين مصر والكيان الصهيوني منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد، كمياً ونوعياً، وتحولت مصر معها من مصدِّرٍ إلى مستورِدٍ للغاز من الكيان الصهيوني. وتمثل تلك الصفقة جزءاً من "تحالف غازي" تَشَكَّل عام 2020، هو "منتدى غاز شرق المتوسط"، الذي يضم مصر واليونان وقبرص والكيان الصهيوني وإيطاليا والأردن والسلطة الفلسطينية، ثم انضمت إليه فرنسا عام 2021. وتحظى الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي ومجموعة البنك الدولي بصفة مراقب دائم في "منتدى غاز شرق المتوسط". أمّا الإمارات العربية المتحدة، التي قدّمت طلب انضمام إليه، فإن وضعيتها فيه ما برحت غير واضحة. ومن الجدير بالذكر أن شركات نفط وغاز عالمية كبرى، مثل "توتال" الفرنسية، و"إيني" الإيطالية، و"نوفاتيك" الروسية، و"إكسون" الأميركية، تحظى بعلاقة خاصة بالمنتدى الغازي ودوله، ولاسيما أنها وقّعت عقود تنقيب وإنتاج ومعالجة ونقل للغاز شرقي المتوسط، فهي حاضرة في المنتدى بالقوة، وإن لم تكن حاضرة رسمياً.

منافسة إقليمية على الغاز الإسرائيلي

لمّحت عدة تقارير إلى أن الدافع المصري إلى عقد مثل تلك الصفقة هو حرمان تركيا من التحول إلى بؤرة تصدير للغاز الفلسطيني المسروق إلى أوروبا. لكنْ، سواءٌ تحدثنا عن استيراد، أو تصدير، أو إعادة تصدير، فإن المستفيد هو الكيان الصهيوني. أمّا المنافسة بين تركيا ومصر بالنسبة إلى خطوط الغاز الإسرائيلي، فمن الواضح أنها لعبةٌ لا تنتهي. يُذكَر أن وزير الطاقة التركي، فاتح دونماز، التقى نظيرته الإسرائيلية، كارين إلهرار، على هامش مؤتمر وزراء الطاقة في باريس قبل شهرين، وأكد لها عزمه على زيارة "تل أبيب" من أجل البحث في عددٍ من الملفات المهمة المشتركة، بحسب وسائل الإعلام. وهي الزيارة المهدَّدة بالإلغاء الآن بسبب خلافات بشأن تمرير الغاز الإسرائيلي. وكارين إلهرار، وزيرة الطاقة الإسرائيلية، بالمناسبة، كانت عوملت كملكة في مؤتمر الطاقة الإقليمي في القاهرة. 

وفي شباط/ فبراير 2022، في مؤتمر الطاقة الإقليمي في القاهرة، توسّع الاتفاق الغازي بين مصر والكيان الصهيوني بصورةٍ أكبر، بحيث يجري ضخ ملياري متر مكعب إضافيين، فوق المليارات الـ3.5 المكعبة، والتي يجري ضخها حالياً من عسقلان إلى العريش، لكنْ، عبر الأردن، من العقبة إلى "إيلات"/ أم الرشراش العربية المحتلة، إلى مصر. أمّا السعر، فبقي سراً! أي أن الصفقة باتت تتجاوز عشرين مليار دولار.

الأطراف المعنية بالصفقة، كما ظهرت في حفل التوقيع عليها في مؤتمر الطاقة الإقليمي عام 2022 في القاهرة، كانت شركة "شيفرون" النفطية الأميركية، التي تملك 40% من حقل "ليفاياثَن" و25% من حقل "تامار" (وهنا صلة الوصل، في هذه الحالة بالذات، بين ظاهرة الإمبريالية، كما حللناها في عدة مقالات سابقة في الميادين نت، من جهة، وظاهرة التطبيع، من جهةٍ أخرى)، بالإضافة إلى مدير شركة "شيفرون" في الكيان الصهيوني، ووزير النفط والموارد المعدنية المصري، ومدير شركة "ديليك" Delek الصهيونية، ورئيس شركة "فجر" الأردنية. والأخيرة هي الشركة المعنية بنقل الغاز المستورد من الكيان الصهيوني، عبر جسر الشيخ حسين إلى العقبة إلى "إيلات"، إلى مصر. والجديد هو تمرير مزيد من الغاز الإسرائيلي إلى مصر، عبر الأردن.

ما سبق هو مجرد تمرين عملي معاصر، غازي إقليمي، لمعنى تعبير "الحلف الإمبريالي –الصهيوني - الرجعي العربي". والكمبرادور هنا هو الوسيط العربي اسماً، الرسمي والخاص، للإمبريالية والصهيونية؛ أي أنه يمثل، في هذه الحالة، المحتوى الاقتصادي - السياسي لمعنى "رجعية عربية". ومَن لديه اعتراضٌ على مثل هذه "اللغة الخشبية"، فليتفضلْ مشكوراً ليقدم لنا إطاراً مفهومياً أفضل لتفسير ما يجري تطبيعياً من نهبٍ للموارد العربية، بالتواطؤ بين هذه الأطراف الثلاثة.

اللافت أن التقارير الصهيونية عن مؤتمر الطاقة الإقليمي في القاهرة قبل ثلاثة أشهر تقول إن تصعيد التطبيع الغازي المصري مع الكيان الصهيوني يرتبط مباشرة بالمنافسة التطبيعية الرسمية المصرية مع الإمارات بعد تطور علاقة الأخيرة بالكيان الصهيوني في الاتفاقات الإبراهيمية، مع العلم بأن الصندوق السيادي الإماراتي يمتلك حصةً من حقل "تامار"، غير معلومة. وثمة مشكلة كبيرة، بطبيعة الحال، في دخول منافسة غازية تطبيعية، مع تركيا تارةً، ومع الإمارات طوراً، ومع طرف ثالث غداً، وطرف رابع بعد غد، لأن البؤرة الغازية هنا، والتي يتنافس الجميع في ودّها، تصبح الكيان الصهيوني، لا أي المتنافسين عليه. 

غاز عربي منهوب

حقلا "ليفاياثَن" و"تامار"، بالمناسبة، هما الأكبر حجماً في مقابل شواطئ فلسطين. وثمة حقول غاز عربية محتلة أخرى، أصغر حجماً، مثل "داليت"، "تمار الجنوبي"، "تانين"، و"ماري ب" في مياه شرقي المتوسط. وهناك حقل غاز "أفروديت" أيضاً، المتنازع عليه بين الكيان الصهيوني وقبرص. وهناك حقلا مارين 1 ومارين 2 على بعد 30 كم من شاطئ غزة، ويحتويان على 1.4 ترليون قدم مكعب من الغاز، لكن استثمارهما معطَّل إسرائيلياً، بموجب "برتوكول باريس" لعام 1994؛ المعادل الاقتصادي لاتفاق أوسلو. وينص البرتوكول على أن التنقيب عن الموارد الطبيعية لا يتم من دون إشراف ممثلين صهاينة، أي لا يتم من دون موافقة الجانب الصهيوني. 

يمكن أن نتحدث أيضاً عن حقل غاز "كاريش" العربي المحتل، موضع النزاع القانوني مع لبنان حالياً، والذي أُعلِن في بداية آذار/مارس الفائت ربطُه بأنبوب سوف ينقل غازه إلى مصنع "إنيرجيان"، حيث ستتم معالجته، تمهيداً لاستهلاكه أو تصديره، إذ تقول تقارير صهيونية إن الإنتاج فيه يُفترض أن يبدأ في صيف العام الجاري. وهذا من دون التطرق إلى حقل غاز "قانا" اللبناني المُحتل. فإذا تم تصدير غاز "كاريش" إلى أوروبا، يمكن أن نتحدث عن غازٍ لبنانيٍ مسروقٍ أيضاً. 

وكله غازٌ عربي مسروق، تدفع مصر (والأردن) ثمنه المليارات من الدولارات، التي تُساهم في تحسين الميزان التجاري للاحتلال الصهيوني، وفي تقوية الشيكل. 

غاز مصري منهوب

عندما كانت مصر تصدّر الغاز إلى الكيان الصهيوني، كما فعلت ابتداءً من عام 2001، بموجب عقد قيمته 3 مليارات من الدولارات لمدة 10 سنوات، جرى التوقيع بين شركة الكهرباء الإسرائيلية من جهة، وشركة "شرق البحر المتوسط للغاز" من جهةٍ أخرى. والحبكة هنا أن 25% من شركة "شرق البحر المتوسط للغاز" تبيَّن أن شركة "ميرهاف" في الكيان الصهيوني تمتلكها! 

بدأت المرحلة الثانية من تصدير الغاز المصري إلى الكيان الصهيوني باتفاق بين شركة "شرق المتوسط للغاز" والحكومة المصرية عام 2005 على تصدير 1.7 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً لمدة 20 عاماً. وتمثّلت الحبكة هنا بأن سعر الوحدة الواحدة من الغاز (مليون وحدة حرارية) تم تحديده في الاتفاق بما بين 70 سنتاً و1.5 دولار، بينما كانت تكلفة إنتاجها بالنسبة إلى مصر تعادل 2.65 دولار!
بدأ تنفيذ الاتفاق عام 2008، على الرغم من الاحتجاجات الشعبية الواسعة في مصر. وبعد تفجير خط الغاز مراراً عامي 2011 و2012، أعلنت مصر إيقاف العمل بالاتفاق على تصدير الغاز إلى "إسرائيل"، في نيسان/أبريل 2012 (قبل وصول محمد مرسي إلى الرئاسة). تبيّن بعد ذلك أن الاتفاق على تصدير الغاز إلى الكيان الصهيوني، بأقل من تكلفة إنتاجه، كلف الدولة المصرية 715 مليون دولار. وجاء ذلك في قرار محكمة ضد وزير البترول المصري الأسبق، سامح فهمي، وضد حسين سالم، رجل الأعمال المصري الذي كان يملك نحو ثلثي خط أنابيب العريش - عسقلان، إلى جانب شركة "ميرهاف" (البقية الباقية، وهي 10%، من شركة "شرق المتوسط للغاز"، مالكة الخط، كانت تملكها الدولة). وبعد قضايا محاكم استمرت أعواماً، تمت تبرئة ساحة سامح فهمي وحسين سالم، من التهم الموجهة إليهما، في شباط/فبراير 2015، وعفا الله عما مضى.

لا بد من لفت النظر إلى أن تفجير خط الغاز بين العريش وعسقلان، في بداية "الربيع العربي"، رتّب على مصر غرامات قانونية (بموجب أحكام محاكم دولية). هنا دخلت شركة "نوبل إنرجي" الأميركية وشركة "ديليك" الصهيونية لتشتريا حصصاً معتبرة من شركة "شرق المتوسط للغاز". وكان قرار التحكيم الدولي، في نهاية عام 2015، ألزم مصر بدفع تعويضات مقدارها مليار و760 مليون دولار إلى شركة الكهرباء الإسرائيلية. وفي حزيران/يونيو 2019، توصلت مصر إلى تسوية مع "إسرائيل" دفعت بموجبها نصف مليار دولار. وكان التفاهم على تصدير الغاز الصهيوني إلى مصر بات أمراً مفعولاً. 

كذلك أدى تفجير خط الغاز عشرات المرات بين مصر والأردن، في خضم "الربيع العربي"، إلى منح الذريعة لعقد اتفاقية الغاز بين الأردن والكيان الصهيوني.. أو هكذا قيل، على الأقل. لكن العبرة في الحالتين هي ربط مصر والأردن غازياً بالكيان الصهيوني، على مستوى البنية التحتية بصورةٍ أكبر، منذ "الربيع العربي".

أبعادٌ أخرى للتطبيع الاقتصادي بين مصر والكيان الصهيوني 

يشكل الغاز، إلى جانب السياحة، والمناطق الصناعية المؤهَّلة (للتصدير من دون جمرك إلى الولايات المتحدة بمدخل "إسرائيلي")، أهم ثلاثة أشكال للتطبيع الاقتصادي لمصر مع العدو الصهيوني. ويشار إلى أن مصر تأخرت في الانضمام إلى مشروع المناطق الصناعية المؤهلة حتى عام 2004. وعلى الرغم من حجمها، فإنّ صادرات مصر عبر تلك المناطق ظلّت أقل مما صدّره الأردن إلى الولايات المتحدة حتى العام الفائت. لقد بلغت مثلاً مليار دولار من مصر، و1.5 مليار دولار من الأردن عام 2019. وكان عام 2020 عام كوفيد طبعاً، لتنخفض الصادرات من المناطق الصناعية المؤهلة إلى الولايات المتحدة، من مصر والأردن. أمّا عام 2021، فازدادت صادرات المناطق الصناعية المؤهلة المصرية إلى الولايات المتحدة 1.2 مليار دولار، أمّا المناطق الصناعية المؤهلة الأردنية فليس هناك من رقم موثوق، لكن يبدو أنها انخفضت، ولاسيما أن كل الصادرات السلعية الأردنية إلى الولايات المتحدة عام 2021، من المناطق الصناعية المؤهلة ومن غيرها، بالكاد زادت على 1.2 مليار دولار، بحسب المكتب الإحصائي الأميركي (الرسمي). 

ثمة فارق مهم هنا، هو أن الشركات والعِمالة في المناطق الصناعية المؤهلة الأردنية معظمها غير أردني (كثير منها آسيوي يستفيد من التصدير بلا جمرك إلى الولايات المتحدة). كذلك، لو أخذنا إحصاءات عام 2021 مقياساً، فإن صادرات المناطق الصناعية المؤهلة المصرية، بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي المصري، والذي يزيد على 400 مليار دولار، لا تبلغ ثُلُثَ واحدٍ في المئة (0.29%) من الناتج المحلي الإجمالي المصري لعام 2021؛ أي أنها قليلة الأهمية نسبياً. أمّا في الأردن، فإن القيمة المطلقة ذاتها من الصادرات، 1.2 مليار دولار مثلاً، بالنسبة إلى ناتج محلي إجمالي يقدَّر بـ45 مليار دولار، تصبح 2.66% من الناتج المحلي الإجمالي. لكنّ فوائد تلك الصادرات في الأردن يذهب معظمها إلى غير الأردنيين، لأن نسبة كبيرة من الشركات والعمال العاملين فيها من غير الأردنيين، أمّا الفوائد في مصر فتافهة جداً بالنسبة إلى ناتجها المحلي الإجمالي، مع وجود شركات أجنبية في مصر أيضاً تتقاسم تلك الفوائد. 

السياحة في سيناء بين الأمن والسياسة والاقتصاد

سياحياً، بلغ عدد السياح القادمين إلى مصر 13 مليوناً عام 2019، ما قبل كوفيد، وعادت السياحة على مصر بأكثر من 13 مليار دولار في ذلك العام. وتقول السفارة الصهيونية في القاهرة إن 700 ألفٍ منهم جاءوا من "إسرائيل"، لا نعرف كم منهم من العرب، وهي نسبة تزيد قليلاً على 5% من المجموع، إذا صدقت أرقام سفارة العدو. 

لكنّ الواقع هو أن أغلبية السياحة اليهودية ذهبت إلى شبه جزيرة سيناء، فيما يبدو أنها أقرب إلى سياحة سياسية من كونها سياحة عادية. كما أن السائح الإسرائيلي (في الأردن ومصر) اشتُهر بجلب طعامه وشرابه معه، أو باستخدامه المواصلات العامة والمطاعم الشعبية، وأحياناً يُحْضِر خيماً معه للإقامة بها، مع أنه يستطيع دخول البلدين من دون تأشيرة. فمساهمته في الدخل السياحي أقل كثيراً من نسبته من غيره من السياح، لأنه ينفق أقل كثيراً من السائح العادي. ومن البديهي أن المردود السياحي أو غيره ليس الأساس في تقييم التطبيع مع العدو الصهيوني، وإنما وجبت الإشارة إلى أن التطبيع فاشل حتى على الصعيد السياحي. والآن، يجري تفعيل خط طيران مباشر من "تل أبيب" إلى شرم الشيخ، في محاولة لإنعاش القطاع السياحي المصري الذي تلقّى ضربة كبيرة خلال أزمة كوفيد، وضربة أخرى جديدة جراء أزمة أوكرانيا. لكن حتى المواقع الصهيونية تؤكد أن ذلك لن ينقذ قطاع السياحة المصري من أزمته. 

أمنياً، كانت إعادة سيناء إلى مصر مكبَّلة بشروط تحوّلها إلى مناطق "أ"، و"ب"، و"ج". وكانت المنطقتان "ب" و"ج" محظورتين على الجيش المصري، ولاسيما المنطقة "ج"، التي تشكل نحو ثلث سيناء، البالغة في المجمل أكثر من 60 ألف كيلومتر مربع، وهي المنطقة الأقرب إلى فلسطين.

نظرياً، تم تأسيس منتجعات في المنطقة "ج" تدر دخلاً سياحياً، مثل شرم الشيخ، لكنّ بُعدها عن المركز، وإدراك الإرهابيين والمهربين والخارجين عن القانون لعدم قدرة الدولة وأجهزتها الأمنية على الوصول الحُرّ إليها، جعلاها موئلاً للتهريب والإرهاب والجريمة والتكفير (جماعة "الربيع العربي" يُصرون على أن سبب ذلك هو إهمال الدولة المصرية لها تنموياً بعد استرجاعها، وعدم إتاحة الفرصة الكافية لسكانها البدو في العمل في القطاع السياحي في سيناء!).

وما برحت منطقة رفح - الشيخ زويد - العريش في محافظة شمالي سيناء حتى اليوم، أي المنطقة الشمالية في سيناء، الملاصقة لغزة، والمحاذية حدودها للبحر المتوسط، المنطقةَ الأكثر اشتعالاً بالعمل الإرهابي والعمل التكفيري، وشكلت تلك المنطقة ملجأً للعناصر الإرهابية والتكفيرية والإجرامية، مع فارق مهم هو أن التنظيمات العاملة فيها قبل "الربيع العربي" كانت تقوم أحياناً بالعمل ضد السياح الأجانب، ونادراً ضد "الإسرائيليين"، استلهاماً لنهج "القاعدة" بالتوجه نحو الغرب. أمّا بعد "الربيع العربي"، فتحولت إلى العمل تماماً ضد الدولة والجيش المصريَّين، ولاسيما بعد إطاحة محمد مرسي، بحيث بات إرسال قوات مصرية إلى المنطقة "ج" لمحاربة تلك العناصر والمجموعات عنصرَ ابتزاز بالنسبة إلى الكيان الصهيوني في علاقته بمصر، والذي "يتساهل" في هذا الأمر أو أنه يشكو مصرَ إلى الولايات المتحدة إن هي أرسلت ما هو غير متفَق عليه لمحاربة الإرهابيين.

اللافت هو أن القوات المتعددة الجنسيات (غير الخاضعة للأمم المتحدة) الموجودة في المنطقة "ج"، لمراقبة تطبيق معاهدة السلام المصرية -الإسرائيلية، لم يجرِ استهدافها أبداً، ولا مرة، لا قبل "الربيع العربي" ولا بعده، مع أن أكثر من ثلثها أميركي!

تكاد لا توجد عائلة مصرية لم تخسر شهداء أو جرحى في سيناء. والطامة الكبرى هي أن الفوضى عمت خلال "الربيع العربي"، وكانت القاعدة الخلفية لكثير من التنظيمات الإرهابية والتكفيرية هي غزة، وبعض تلك التنظيمات ضد "حماس"، وبعضها ليس ضدها. وأدى نزف الدم والشهداء إلى تأجيج مشاعر بعض المصريين للأسف ضد غزة والفلسطينيين وضد القضية الفلسطينية ذاتها، وهذه نقطة تصب في مجرى تسويغ التطبيع شعبياً كردة فعل انفعالية، لكنّ قليلين ينتبهون إلى أن مصدر المشكلة هو إعادة سيناء منزوعة السلاح، وتقييد حق الجيش المصري في التحرك فيها، وخلق الفراغ الأمني الذي سمح بنمو الخطر التكفيري فيها على مدى أربعين عاماً. 

مصدر المشكلة، إذاً، هو مشروع كامب ديفيد ذاته، الذي يصبح تخفيف شروطه بالنسبة إلى حركة الجيش المصري في سيناء "صَدَقةً" يقدّمها الصهاينة والأميركيون إلى مصر في مواجهة الإرهاب التكفيري، الذي لا يستهدفهم مع أنه على بُعد خطوات منهم! وفعلاً غريب أمر هذا الإرهابي التكفيري الذي يستهدف المصري المسلم والمسيحي، والعسكري والمدني، بحجة أن هذا المصري "كافر"، ولا يستهدف القوات الدولية والصهاينة بمحاذاته! ونشرت عدة وسائل إعلام تقارير، في أيار/مايو 2020، بشأن رغبة وزارة الدفاع الأميركية في سحب قواتها من سيناء. ولم يُنشَر شيء عن ذلك بعدها. فهل تورطت مصر في حرب استنزاف لا نهاية لها بقبولها شروط مشروع كامب ديفيد؟ ذلك هو السؤال الحقيقي.

استراتيجية فاشلة ومدمِّرة للذات

تكشف السياسة المصرية، بعد جمال عبد الناصر، قصوراً استراتيجياً يصعب استيعابه، لأن انسحاب مصر من المشهد العربي هو الذي سمح لبعض الأنظمة الخليجية بالتغوُّل. كما أن ربط مصير النظام في مصر بالتفاهمات مع الطرف الأميركي - الصهيوني شلّ قدرته على الدفاع عن أمنه الوطني، وبالتالي عن الأمن القومي العربي، من ليبيا إلى الحبشة إلى سوريا.

ما لا يستوعبه دعاة النهوض القُطري هو أننا لا نعيش في قواقع منفصلة، وأن التقسيم الاستعماري للوطن العربي لا يغيّر في معادلات الجغرافيا السياسية شيئاً، فالمشروع القُطري يعني أن يقف بيريز في القمم الاقتصادية لـ"الشرق الأوسط" وشمالي إفريقيا، والتي انعقدت بالتوالي في الدار البيضاء وعمّان والقاهرة، في الأعوام 1994 و1995 و1996، ليقول: لقد جربتم قيادة مصر للعالم العربي 40 عاماً، فلتجربوا قيادة "إسرائيل" له...

المعادلة، التي ثبت أنها لا تخيب، هي أن "السلام" مع العدو الصهيوني هو مصدر انقسام، قومياً ووطنياً، وأن مشروع المقاومة هو مصدر وحدة... المعادلة الأخرى، التي لا تخيب، هي أن من لا يمتلك مشروعاً أكبر من قُطره، يتم توظيفه، بصورة أو بأخرى، من جانب من يمتلك مشاريع تتعلق بقُطره... المعادلة الثالثة، التي لا تخيب، هي أن حماية الأمن الوطني في اي قُطر عربي لا تتحقق من دون استراتيجية أمن قومي عربي... المعادلة الرابعة، التي لا تخيب، هي أن من مضوا في قطار التطبيع مع العدو الصهيوني لم يحققوا أمناً ولا ازدهاراً ولا سلاماً ولا من يحزنون، وأنهم دخلوا الآن في صيرورة تنافس بين جيل المطبّعين القدامى وجيل المطبّعين الجدد تُضعفهم جميعاً.

إن استراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي، التي تكشفها وثائق متعدّدة، مثل وثيقة "كيفونيم" لتقسيم الوطن العربي عام 1982، ووثيقة "كارينجا" قبلها منذ الخمسينيات، وما كتبه المستشرق برنار لويس، وكل ما كشفته، على الأرض، مشاريع تقسيم العراق وليبيا والسودان وسوريا ولبنان والصومال واليمن... إلخ، تقوم على محو القاسم المشترك في هوية المنطقة؛ القاسم العروبي، وتفكيك أقطارها، ولاسيما المركزية منها. لذلك، فإن التعامل مع مسألة الأمن الوطني باعتبارها شأناً قُطرياً فحسب، يعبّر عن قصورٍ استراتيجيّ لا يمكن ترميمه إلا وفق رؤية قومية عروبية، هي مسألة أمن قومي أكثر من كونها مسألة عقيدة.

التطبيع مشروع فاشل استراتيجياً وتكتيكياً، فلا هو أحضر السلام والازدهار إلى مصر أو الأردن، ولا أحضر الدويلةَ إلى السلطة الفلسطينية، وساهم في زيادة الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية، وزيادة التفسخ والفتن والتفكيك في الأقطار العربية.

نجد، في المقابل، أن كل إنجاز تحقَّق في البلدان العربية أو في فلسطين، منذ مشروع كامب ديفيد، تحقَّق بفضل المقاومة. لكنّ المقاومة تمثّل مشروعاً دفاعياً، وهذا مهم جداً، ولا غنى عنه في الظروف الراهنة. أمّا تحقيق الأمن القومي العربي فيتطلّب استراتيجية أمن قومي، سوف تسفر، بعقلٍ علمي باردٍ، عن مشروعٍ قومي لا محالة.